مع القرآن - كلمة في آية (11) ٱلْمُمْتَرِينَ
"أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًۭا وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلًۭا ۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌۭ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ (الأنعام 114)
إن الوقوف على لفظ "ٱلْمُمْتَرِينَ" في هذه الآية من سورة الأنعام، هو وقوف على مفترق طريق بين اليقين الحق والشك المضلّ، فهي من الكلمات القرآنية العميقة ذات الجذر العقدي.
وٱلْمُمْتَرِينَ: جمع مُمْتَرٍ، من الفعل "مارى يُماري"، أي دخل في المراء والجدال المشوب بالشك والتردد.
ومعناها هنا: لا تكن من الذين يشكّون في أن القرآن منزل من عند الله، أو يدخلون في جدال باطل حول مصدره وحقّه.
وفيما يلي ثلاث مفردات تحمل معنى "ٱلْمُمْتَرِينَ" في هذا الموضع:
1. الشَّاكِّين
أي الذين لم يثبت اليقين في قلوبهم، فتراهم مترددين في قبول الحق.
وهذا هو أقرب المعاني للمراء، وهو الأصل الذي ينبني عليه التردد في التسليم بالوحي.
2. المُرْتَابِينَ
من الريبة، وهي الشك الممزوج بسوء الظنّ والاضطراب الداخلي.
3. المُجَادِلِينَ
لأن المِراء غالبًا ما يكون جدالًا لا يُراد به الوصول إلى الحق، بل إثارة الشك أو إظهار الاعتراض.
وقد ذمّ القرآن كثيرًا من أهل الجدال، فقال: "وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الحج: 3)
لمسة ختامية:
قوله: "فلا تكونن من الممترين" هو نهي ليس عن مجرد الشك، بل عن الميل النفسي نحو التردد في أمرٍ جاء فيه البيان والبرهان.
والإيمان الحق لا يكتفي بالتصديق، بل يقوم على طمأنينة اليقين وسكون القلب للحق.
*** *** ***
المراء في واقعنا:
قال تعالى: "فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ" (الأنعام: 114)
هذا النهي الإلهي موجه إلى النبي ﷺ، وهو معصوم من الشك، مما يدل على خطورة المراء والشك في الحقائق الثابتة، خصوصًا في أمر الوحي والمرجعية.
1. المراء المعاصر = relativism (النسبية المطلقة)
في زمننا، انتشر ما يُسمى بـ النسبية الفكرية، حيث يُقال: "لا حقيقة مطلقة، كل شيء نسبي"، حتى أصبحت ثوابت الوحي محل جدل وتمييع. فالقرآن يُصبح في عيون البعض "رؤية ثقافية" قابلة للمراجعة، لا "وحيًا إلهيًا" ملزمًا. وهذا هو المراء بعينه، يُزيّنه الخطاب الحداثي بمصطلحات براقة كـ:
- "تفكيك النص"،
- "إعادة تأويل التراث"،
- "قراءات معاصرة للوحي"،
وكلها في جوهرها امتِراءٌ في المصدر والمرجعية.
2. المراء في الإعلام والخطاب الجماهيري
نعيش في عصر إغراق بالمعلومات واختلاط الأصوات، بحيث صار من السهل التشكيك في كل شيء، من خلال:
- برامج الجدال العقيم،
- مقاطع التشكيك المختزلة،
- حملات السخرية من الدين،
دعاوى "حرية الاعتقاد" التي تُستخدم غطاءً لنقض أصل الإيمان.
هذه الظواهر تعيد إنتاج "المراء" بصورة عصرية، تغلّف الشك في الوحي بمظهر "الانفتاح" أو "النقاش الحر"، لكنها في حقيقتها زخرف قول غرورًا.
3. المراء في التعليم والثقافة
بعض المناهج التعليمية، والكتابات الفكرية، لا تغرس اليقين في النفوس، بل تُعلّم الشك كأسلوب تفكير دائم.
وهذا قد يفيد في بعض العلوم، لكنه إذا طال أصول الإيمان والوحي، انقلب إلى فتنة مهلكة. فتجد شابًا يُقال له: "القرآن منتج بيئي، ومحمد عبقري حضاري، والله فكرة كبرى..." فإذا به يهتز يقينه دون أن يشعر، ويُصبح من "الممترين"، وهم لا يسمّون أنفسهم كذلك.
4. الردّ القرآني: الكتاب المفصَّل
الآية الكريمة تجعل معيار الثبات: "وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلًۭا" أي أن العلاج للمراء، هو العودة إلى الوحي المفصّل، الواضح، الكافي.
فمن تلا هذا الكتاب بإخلاص وتدبر، أبصر الحق، واطمأن قلبه، ونجا من سُبل الممترين.
خلاصة:
الآية ليست فقط تحذيرًا، بل بوصلة للأمان الفكري في زمن الاضطراب. فإذا أردت أن تبقى على الصراط في عالم تهدر فيه الأصوات وتُفتن فيه العقول، فعليك أن:
- تُحكّم الوحي، لا الأهواء.
- تثبت عند اليقين، ولا تطلب دائمًا ما وراءه.
- تتعلم كيف تناقش، دون أن تنزلق إلى مراءٍ لا يراد به وجه الله.
*** *** ***
من هم الممترون في زمن الحداثة؟
"الممترون في زمن الحداثة" هم وجه جديد لجماعة قديمة، ظهروا بأسماء وأقنعة شتّى، لكنهم يجتمعون عند الأصل ذاته: الارتياب في مصدرية الوحي، أو سلطانه، أو كفايته.
فلنجب عن سؤالك الجوهري على مراحل، مسترشدين بالآية: "فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ" (الأنعام: 114)
من هم الممترون في زمن الحداثة؟
1. من يُشكّك في مصدر الوحي
الذين يقولون إن القرآن تجربة روحية، أو نص لغوي مفتوح، أو نتاج ثقافي لا وحيٌ إلهي. يلبسون قولهم بعبارات مثل:
- "محمد عبّر عن تجربته بلغته"،
- "النص القرآني انبثق من الوعي التاريخي"،
- "القرآن ليس نصًا فوق التاريخ، بل ابن بيئته".
هؤلاء في جوهرهم يُمارون في أصل الرسالة.
2. من يُشكّك في كفاية القرآن للتشريع والهداية
يقولون: "القرآن كتاب قيم وأخلاقي، لكنه لا يصلح وحده لتنظيم حياة الإنسان الحديثة". يُقصون القرآن من دوائر الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، بزعم أنه "غيبي" أو "غير واقعي". وقد يُضفون شرعية على القوانين الوضعية ويجعلونها المرجع الأعلى. هؤلاء يمارون في حاكميّة الكتاب وتفصيله.
3. من يُمارس التأويل المُفرغ للمعنى
يُؤمن بلفظ الآية، لكنه يؤولها تأويلاً يُفرغها من سلطانها. مثال:
- "فلا تَكُونَنَّ من الممترين" = لا تكن متسرعًا في تبنّي الحقائق!
- "منزّل من ربك بالحق" = الحق نسبي، وما تراه حقًا ليس حقًا لغيرك...
هؤلاء يُمارون باسم "الفهم المعاصر"، لكنهم يهدمون اليقين بالتأويل الساخر.
4. من يجعل الشك قيمة معرفية مطلقة
- يُربّي الأجيال على أن "كل شيء محل سؤال"، حتى أصل الإيمان والقرآن والنبوة.
- يتحوّل الشك من أداة للبحث إلى غاية في ذاته، لا يُراد به الوصول إلى يقين، بل العيش في المراوحة الفكرية.
هؤلاء هم الممترون التربويون، الذين يصوغون مناهج تشكّك في كل شيء، ولا تُثبت شيئًا.
5. من يصوغ خطابًا دينيًا خجولًا من النص
- يُقدّم الدين وكأنه قابل للتفاوض والترضية، ويخجل من آيات العقيدة والجهاد والولاء والبراء.
- يقول: "لا بد من الاعتذار عن النصوص التي تُشعر الآخرين بعدم الارتياح".
- يرضى أن يتلو القرآن بصوت خافت في زمن تعلو فيه أصوات الباطل.
هؤلاء في حقيقتهم ممترون في قوة الكتاب ومركزيته الحضارية.
خاتمة جامعة:
الممترون في زمن الحداثة لا يعلنون أنفسهم صراحة، بل يتدثرون بأسماءٍ براقة: باحثون، مفكرون، مجددون، قرّاء حداثيون... لكن قلوبهم لا تسكن للحق، وألسنتهم تتلذذ بالتشكيك لا بالتسليم، ومسالكهم تُربك الناس عن نور الكتاب.
والعلاج كما دلّت عليه الآية: "وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً". فارجع إليه، وخذ منه، وأعرض عمّن يماري فيه.
*** *** ***
أمثلة تطبيقية من واقع الإعلام والفكر العربي الحديث.
البصيرة تكتمل حين يُستخرج المفهوم القرآني من سكينة النص إلى صخب الواقع. إليكم أمثلة تطبيقية حيّة، لا من باب التشهير، بل لتمكين الوعي، وتعزيز فقه الواقع بنور القرآن.
أولًا: في الإعلام العربي - زخرف القول غرورًا
1. برامج "الجدل الديني" التي تنشر الشك بدل الفهم
برامج تستضيف من يزعم "قراءة جديدة للقرآن"، يقدّم نفسه مفكرًا، ثم ينسف أصول الدين باسم حرية الفكر.
مثال شائع:
- أحدهم يقول: "عذاب القبر خرافة"،
- وآخر يزعم: "الصلاة لا تحتاج إلى وحي، هي طقس روحي غير محدد الشكل".
هذا زرع للامتِراء في عقول العامة، يلبس الشك لبوس الحداثة.
2. منصات تروّج لفكرة "إعادة النظر في القرآن"
مثل حلقات يوتيوب أو مقالات في صحف عربية كبرى، تتداول عبارات نحو:
- "القرآن قابل لإعادة البناء"،
- "النبوة وعيٌ تاريخي لا فوقيٌّ إلهي".
هذا مراء فلسفي مغلف بلغة ناعمة، لكنه يشكك في مصدرية الوحي ومركزيته.
3. صناعة القدوة من مشككين في الوحي
إعلام يلمّع شخصيات تنقض الثوابت، وتظهرهم كـ"روّاد تنوير"، مثل من يصف القرآن بأنه "كتاب أدبي جميل" فحسب، دون الالتزام بمصدره وأحكامه. ثم تُقدَّم آراؤهم في المدارس والبرامج الثقافية كـ"رؤى تقدمية". والنتيجة: تطبيع الشك وجعله جزءًا من "الثقافة العامة".
ثانيًا: في الفكر العربي - المدارس الممتَرية
1. القراءات الحداثية للنص القرآني
تعتمد هذه التيارات - كجماعة "قرآنيون" أو "القراءة الجديدة" - على فرضية أن: "النص القرآني غير ملزم بمعناه، بل يمكن إعادة تأويله حسب السياق المعاصر". مثل:
- تأويل "الصيام" على أنه "صوم أخلاقي" لا إمساك،
- اعتبار "الجهاد" مجرد "جهاد نفسي"،
- نفي فكرة "الولاء والبراء" تمامًا لأنها "لا تناسب العصر".
هذا مراء مغلّف بمنهجية فلسفية، لكنه في حقيقته إنكار ناعم للوحي.
2. الاستشراق الثقافي بنسخته العربية
أقلام عربية، تلميذة للمدارس الغربية، تُنظّر لفكرة أن الإسلام منتج ثقافي تاريخي، وليس دينًا منزّلًا.
يقولون: "الإسلام المبكر هو بناء سردي، والقرآن تطوّر تدريجي في الوعي الجماعي للعرب".
هذا امتِراء فلسفي عميق، يسلب القرآن قدسيته، ويُخرجه من كونه مرجعًا إلى مجرد مادة تحليل.
3. الدعوة إلى "علمنة التأويل"
تيارات تطالب بـ"قراءة لا دينية" للنص، بمعنى أن يُفسّر القرآن دون افتراض إله أو رسالة، تمامًا كما تُقرأ الأساطير.
والنتيجة: تحويل القرآن من مصدر إيمان إلى مجرّد وثيقة ثقافية قابلة للتشريح الأدبي.
ختامًا:
هؤلاء هم الممترون في زمننا، يتزيّنون بلغةٍ رقيقة، ومصطلحات حداثية، ونقدٍ متأنق، لكنهم جميعًا يلتقون عند الأصل الذي حذّر الله منه: "فلا تكونن من الممترين" والمخرج من فتنهم هو ما قررته الآية: "وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلًا"
أي: لا يردّ الشك إلا وضوح الوحي وثقة المؤمن بربه.