بهية الحريري: معمارية النهضة في وطنٍ يعيد اكتشاف ذاته

إعداد: إبراهيم الخطيب
في بلادٍ تعج بالتقلبات، حيث يتداخل التاريخ بالراهن وتتصارع الأهواء في سوق السياسة، تنهض شخصيات نادرة أشبه بالأعمدة التي تقي سقف الوطن من السقوط. ومن بين هؤلاء، تبرز السيدة بهية الحريري لا بصفتها مسؤولةً سياسية فحسب، بل كحالة رمزية تُعيد تعريف معنى القيادة في الزمن اللبناني الصعب، وتُجسد، في مسيرتها، أن النهضة ليست شعارًا، بل بناءً هادئًا يبدأ من الإنسان.
من الطباشير إلى التشريع: التربية مدخلًا للنهضة
لم تدخل بهية الحريري الحياة العامة من بوابة الصخب، بل من باب الطباشير، حيث كان صوتها الأول في صفوف المدارس الجنوبية، لا في المنابر ولا في القاعات. هناك، لم تكن مجرد معلمة تلقن الدروس، بل باذرة وعي، تغرس في عقول الناشئة حروف الوطن قبل حروف اللغة، وتوقظ فيهم حس الانتماء قبل استظهار المناهج. تلك اللحظة التربوية لم تكن هامشًا في سيرتها، بل لبنتها الأولى، حجر الأساس في بناء مشروعها المجتمعي، الذي ما لبث أن تمدد من الحقل التربوي إلى ساحة التشريع، حيث دخلت البرلمان ممثلةً لمدينةٍ لم تفارقها يومًا، فحملت قضاياها كما تحمل الأم وجع أبنائها. هناك، لم تكتفِ بالتمثيل، بل خاضت معركة التربية من موقع القرار، فترأست لجنتها، وتولت مسؤوليتها الوزارية، بإيمان راسخ أن العدل في التعليم ليس مطلبًا إصلاحيًا فحسب، بل هو خط الدفاع الأخير عن بقاء الوطن في وجه التفكك والانهيار.
مؤسسة ومشروع: تمكين الإنسان كفعل مستدام
حين كانت البلاد تتخبط في عواصفها، وتتهاوى بنيتها تحت وطأة الحرب والانقسام، لم تنتظر بهية الحريري أن ينقشع الضباب، ولم تراهن على انفراج قريب. بل قررت أن تشعل شمعة في العتمة، مؤمنة بأن الأمل لا يُنتظر، بل يُصنع. من هذا الإيمان العميق، وُلدت "مؤسسة الحريري للتنمية البشرية المستدامة" لا كإطار إداري جامد يُضاف إلى ركام المؤسسات، بل كفكرة نابعة من الألم، مصاغة بمنهجية، ومدفوعة برؤية تُقارب التنمية لا بوصفها ترفًا للنخبة، بل ضرورة للناس العاديين، في بيوتهم ومدارسهم وأحيائهم.
لم تكن المؤسسة مجرد وسيلة للمعونة، بل مشروعًا لتحرير الطاقات المعطلة، واستنهاض القدرات الكامنة في الإنسان. كانت الحريري تدرك، بحدس المربية وصدق الفاعلة، أن التمكين الحقيقي لا يكون بالخطب الرنانة ولا بالمؤتمرات المزخرفة، بل بورش العمل، والدورات التخصصية، ومراكز التدريب، والمساحات الآمنة التي تمنح الأفراد فرصةً للنمو، لا مجرد البقاء.
تحت قيادتها، غدت المؤسسة مختبرًا اجتماعيًا نابضًا، تتقاطع فيه مبادرات التعليم المهني، والتدريب الرقمي، والصحة الوقائية، وريادة الأعمال، في نسيج واقعي يستجيب لحاجات الناس الفعلية، لا لتصورات النخبة المجردة. كما عملت المؤسسة على بناء شراكات نوعية مع المدارس والجامعات والمؤسسات الدولية، لتفتح أمام الشباب أبوابًا كانت موصدة، وتربط بين التعليم وسوق العمل في بيئة متحولة، تتطلب مهارات جديدة وذهنيات متجددة.
لقد تحولت المؤسسة، بمرور الوقت، إلى ورشة مجتمعية مفتوحة، تعالج التهميش لا بالخطابات، بل بمنح الناس أدوات الفعل والمبادرة، فكانت تمارس التنمية بوصفها حقًا إنسانيًا، لا منة مؤقتة. وفي صيدا، كما في سائر المناطق، استطاعت أن تحفر أثرًا في الوجدان العام، وأن تقدم نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه التنمية حين تُدار بشغف، وتُصاغ بعقل، وتُنفذ بإخلاص.
هوية وثقافة وسلام: بناء المجتمع من ذاكرته
بهية الحريري لم تفصل بين العمل الأهلي والتراث، بل جمعت بينهما في ممارسة يومية واعية، تُعيد الاعتبار لما أهمله الزمن السريع، وتحفظ الهوية من التآكل. بالنسبة لها، الثقافة ليست فعلًا جانبيًا بل هي القلب الخفي لأي مشروع نهضوي. في ساحات صيدا القديمة، وخصوصًا في "باب السراي"، حيث تتلاقى الأرصفة مع الذاكرة، جعلت من المناسبات الرمضانية فضاءً جامعًا يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان ومكانه، بين المجتمع وتاريخه. لا تكتفي هذه الفعاليات بإحياء طقوس روحية، بل تتجاوز ذلك إلى تأسيس نوع من "الحوار الحي" بين الزمن والمكان، حيث يتحول الموروث إلى مادة معاشة، وتغدو المدينة مسرحًا لتفاعل وجداني يعيد رسم ملامح الانتماء بعيدًا عن الاستهلاك العابر.
في هذه الرؤية، لا يُفهم التراث كحالة تجميلية تُزين الخطاب، بل كأداة للتماسك، ومصدر من مصادر المناعة الاجتماعية. وهكذا، فإن ربط العمل الأهلي بالثقافة لم يكن خيارًا تجميليًا، بل فعل مقاومة ناعم، يستحضر الذاكرة في وجه التفكك، ويجعل من استحضار الماضي مدخلًا لبناء مشترك في الحاضر.
ولأن السلام، كما تؤمن به بهية الحريري، لا يُصنع فقط على موائد الكبار أو في صالونات السياسة الدولية، بل في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمعات، اختارت أن تبني شبكات من التفاهم والتعاون تمتد من قلب صيدا إلى مؤسسات دولية ذات اهتمام بفض النزاعات وتعزيز العدالة الاجتماعية. لقد قدمت صورة مختلفة عن لبنان، لا بوصفه بلدًا منكوبًا أو مرتهنًا، بل كوطنٍ يتلمس طريقه نحو التوازن بشجاعة داخلية وحنكة شراكية.
من خلال تعاونها مع جهات فاعلة ومنظمات مهتمة ببناء السلام، سعت إلى إشراك المجتمع المحلي في رؤية أوسع تتجاوز الأزمات الآنية. كان مشروعها يقوم على اقتناعٍ عميق بأن السيادة لا تتناقض مع الشراكة، بل تكتمل بها، وأن السلام الحقيقي لا يفرض من فوق، بل يُبنى من القاعدة، من الحي، من المدرسة، من العائلة، من الذاكرة ومن الأمل.
بهذا المعنى، تغدو بهية الحريري فاعلة لا فقط في ميادين التنمية، بل في نسيج السلام ذاته، صانعة لنموذج لبناني ينظر إلى الخارج لا بعيون الاستجداء، بل بروح الحوار... حوار يبدأ من الذات ولا ينتهي عند الآخر.
قيادة جامعة وخطاب قيمي: حين تتقدم الأخلاق على السلطة
خطابها، كما سيرتها، لا يبحث عن الأضواء، بل يسكن في صميم المعاني، ويتكئ على رصيد أخلاقي لا على منصات الإعلام. لم تكن بهية الحريري من أولئك الذين يعلقون المبادئ على الجدران، بل ممن يُنزلونها إلى الشارع، إلى المدارس، إلى المجالس، في شكل ممارسات حية تتنفس في وجدان الناس. لم ترفع شعارات، بل تجسدت تلك الشعارات في أفعالها: في دفاعها الثابت عن القضية الفلسطينية، لا بوصفها عنوانًا عاطفيًا بل باعتبارها ميزانًا أخلاقيًا لضمير الأمة؛ في تمسكها العميق بعيش مشترك يتجاوز الطوائف والانتماءات الضيقة، إيمانًا منها بأن هوية لبنان ليست في توازن قلق بين الطوائف، بل في عمق وجدانه المدني.
رؤيتها للمواطنة ليست إدارية أو قانونية فحسب، بل وجدانية وشخصية، تنبع من التزام داخلي بأن كرامة الفرد أساس كرامة الوطن. لذلك، لم تكن بهية الحريري مجرد صوت في السجال العام، بل ضميرًا يُذكر الناس بما يجب ألا يُنسى، ويُعيد إلى الخطاب العام بعده الإنساني في زمن طغت فيه الحسابات على المبادئ.
حتى في الشأن البلدي، حيث يغيب كثيرون بحجة الصلاحيات المحدودة، حضرت الحريري بثبات من يُدرك أن التنمية لا تحتاج إلى ضوء أخضر من فوق بقدر ما تحتاج إلى إرادة صادقة في الأسفل. كانت الحاضرة الداعية إلى الحوكمة الرشيدة، إلى بلدية تشتغل لا كمرفق إداري بيروقراطي بل كجهاز إنقاذ محلي، ينبض بروح المبادرة والتفاعل مع الناس. لم تكن ترى البلدية كمكان للتمثيل الشكلي، بل كمنصة للفعل الحقيقي، شريطة أن يتحرر من الحسابات الضيقة، وأن ينحاز، كما كانت دوماً، إلى المصلحة العامة ومصلحة المدينة.
في صيدا، كما في الوطن، كان يُنظر إليها كقادرة على جمع الأضداد، لا عبر تسويات هشة سرعان ما تتهاوى، بل من خلال مشروع متماسك للعيش المشترك، مشروع يُبنى بالصبر والتراكم والتواضع. حضورها في مناسبات جامعة، دينية ووطنية، لم يكن مجاملة ظرفية، بل بيانًا عمليًا على أن الوطن لا يُبنى بالأكثريات العابرة، بل بالشراكات الراسخة، وعلى أن الانسجام المجتمعي لا يولد من التشابه، بل من احترام الاختلاف وتنظيمه في صيغة إنسانية وسياسية تليق بلبنان.
بهية الحريري: البناء من الإنسان لا من السلطة
قد تمر أسماء كثيرة على مسرح السياسة، وتخبو. أما السيدة بهية الحريري، فهي من القلائل الذين لا يُختصرون بمنصب ولا بلقب. إنها مشروع أخلاقي بامتياز، يربط السياسة بالتربية، الثقافة بالتنمية، التعليم بالمستقبل. لم تكن صوتًا في ضوضاء، بل معنى في زمن الفراغ.
قد تمر أسماء كثيرة على مسرح السياسة، تتصدر المشهد حينًا، وتغيب حينًا آخر، كأنها لم تكن. أسماء تسطع تحت أضواء اللحظة، ثم تنطفئ حين تغيب عنها المصلحة أو تذبل فيها الحماسة. لكن بهية الحريري تنتمي إلى طينة أخرى من القادة: طينة الذين لا يُقاس حضورهم بعدد التصريحات ولا بمواقع النفوذ، بل بعمق الأثر، واستمرارية المعنى، وصلابة الموقف في زمن الالتباس.
إنها من القلائل الذين لا يُختصرون بمنصب ولا بلقب، لأن مشروعها لم يكن يوماً شخصيًا أو نخبويًا، بل رؤية أخلاقية منسوجة من حاجات الناس وأحلامهم، مترجمة في أفعال ومبادرات لا تسعى إلى المجد، بل إلى التمكين، إلى بناء الإنسان لا تسويقه، إلى إصلاح المؤسسات لا استغلالها.
في وطنٍ تتآكله مؤسساته، وتضيع فيه البوصلة بين الشعارات الفارغة والتجاذبات العقيمة، تبقى بهية الحريري شاهدًا على أن البناء الحقيقي لا يبدأ من فوق، من قصور الحكم، بل من تحت، من الناس، من الحقول والمدارس والساحات والذاكرة الحية. هناك حيث الإنسان، حيث تبدأ الحكاية، وتُبنى الأوطان، وتُصان الكرامات.
وحين يُكتب تاريخ هذا الزمن الملتبس، ستبقى الحريري إحدى صفحاته النبيلة... الصفحة التي تقول إن المعنى لا يموت، ما دام هناك من يعمل في الظل من أجل الضوء.