مع القرآن - كلمة في آية (10) عَدْوًۭا
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّۭا شَيَـٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًۭا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام 112)
كلمة "غُرُورًا" في هذا الموضع تكشف عن أسلوب إبليسي قديم - يتجدد في كل زمان - وهو التزيين الباطل والتمويه الخادع الذي يُضفي على الباطل بريقًا يُفتن به ضعاف العقول والقلوب. وهي تعني: خداعًا مزخرفًا يُلبّس الباطل ثوب الحق ليُضلّ به الناس.
وإليكم ثلاث مفردات تعبّر عن هذا المعنى:
1. خِدَاعًا
وهو إظهار ما يخالف الحقيقة بقصد الإيقاع في الباطل.
"غرورًا" هنا هو خداع مزخرف بالكلام، يفتن السامعين بما فيه من زخرفة وبلاغة ظاهرية لا تحمل حقًا.
قال تعالى: "يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ..." (البقرة: 9)
2. تَلْبِيسًا
أي لبس الحق بالباطل، وهي حيلة الشيطان وأتباعه؛ إذ لا يُظهرون الباطل بصورته الصارخة، بل يخلطونه بشيء من الحق أو يزيّنونه ليُقبل.
قال تعالى: "وَلَا تَلْبِسُوا ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ..." (البقرة: 42)
3. فِتْنَةً
لأن الغرور يُفتن به السامع، فيميل عن الصراط بفعل البهرجة والسطحية اللفظية التي تخدع العقول غير المتبصرة.
قال الله عن القرآن: "وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَـٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـٰذَآ..." (يونس: 15)
- فطلبوا قولًا مزخرفًا، على غرار الغرور الذي افتتنوا به.
تأمل ختامي:
الغرور في هذا السياق ليس فقط أسلوبًا من الكلام، بل هو خطة إضلال، تتعاون فيها شياطين الإنس والجن، ويتزيّن بها الباطل ليُعطل نور الوحي ويصرف الناس عن الصراط.
*** *** ***
قوله تعالى: "يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا" يكشف عن بنية عميقة من التضليل المنظّم، يُمارَس فيها الغواية لا كفعل فردي، بل كمنظومة تنسيقية بين شياطين الإنس والجن، يُزيّنون الباطل ويُلبسونه لبوس الحق، فيضلّ الناس دون أن يشعروا. وهذا المعنى يتجلّى بقوة مذهلة في واقع الإعلام المعاصر والخطاب الجماهيري، ونُبيّنه من وجوه:
1. زُخْرُف القول = التجميل الإعلامي للباطل
الإعلام اليوم يُجيد زخرفة القول:
- الشعارات البراقة،
- اللغة العاطفية المُضللة،
- استخدام الصور والموسيقى والمؤثرات لإثارة الانفعال وتغييب العقل.
كل ذلك يُستخدم لترويج أفكار منحرفة أو مفاهيم باطلة، فيظهر الظلم كعدالة، والانحلال كحرية، والفساد كنجاح.
2. التحالف بين "شياطين الإنس والجن" = التلاقي بين أصحاب النفوذ وأصحاب التأثير
في الآية: وحي متبادل بين شياطين الإنس والجن.
في الواقع: تلاقي بين السلطة المالكة للقرار، والنخبة المالكة للمنصّة (إعلام، فن، خطاب عام).
هؤلاء يوحون لبعضهم "زخرف القول"، أي يُنتجون خطابًا إعلاميًا مزينًا يخدم مصالحهم ويخدر وعي الجماهير.
3. "غرورًا" = تضليل الرأي العام بثقة زائفة
الغرور هنا هو حالة من الانخداع الجماعي: أن يُظن أن الحق مع من يملك المنصة أو من يصرخ أعلى.
الإعلام يجعل الباطل مقنعًا، لا لأنه قويّ، بل لأنه مصممٌ لإغواء العقول الكسولة والقلوب الغافلة.
4. "ولو شاء ربك ما فعلوه" = سنة الابتلاء وتمييز الحق بالحق
الخطاب الزخرفي المضلل باقٍ في الأرض، لأنه سُنةٌ لتمحيص القلوب.
الناس أمام ابتلاء دائم: هل يتبعون زخرف القول؟ أم يُميّزون الباطن من الظاهر؟
وهذا يُحيلنا إلى قوله تعالى: "وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا..." (الأنعام: 53)
5. "فذرهم وما يفترون" = الموقف النبوي من حملات التضليل
أي لا تُشغل نفسك بالرد على كل باطل مزخرف، بل اثبت على الحق، وبيّنه بجلاء، واترك لهم صخبهم.
فالمعركة ليست صخبًا في المنصّات، بل ثبات في البيان، وإخلاص في البلاغ، وصبر على سنن الابتلاء.
ختامًا:
هذه الآية ليست فقط كشفًا عن خصم، بل هي تسليح للمؤمن ببصيرة قرآنية يرى بها العالم كما هو، لا كما يُراد له أن يراه.
ومن تشرّب هذه الرؤية، صار محصّنًا من الغرور الإعلامي، وسائر زخارف القول، وسار على هدىً في زمن الفتنة.