رفيق الحريري "الصيداوي" .. العابر للمناطق والطوائف!
يفاجئك الباحث في تاريخ وتراث صيدا الدكتور طالب محمود قرة أحمد وهو يحدثك عن رفيق الحريري " الصيداوي " بما يختزنه عنه في ذاكرته قبل كتبه وأبحاثه الموثقة معلومات وصوراً والموثوقة مصادر ومراجع وشهادات حية ممن جايلوا وعايشوا ذلك العاشق الاستثنائي لمدينته ووطنه .. وبغزارة الحكايا وتدفقها شلال حب ووفاء .. يرفدها كثير مما عايشه من زمن رفيق الحريري، الصيداوي العابر للمناطق و الطوائف، وبما راكمه في ذاكرته وجمعه في مكتبته من ذكريات وقصص واحداث عن رفيق الطفل والفتى الحالم والطالب المقاصدي والشاب النابض بروح الثورة والقومية العربية ورجل الأعمال الناجح ورجل الدولة والمضحي لأجل الوطن حتى الاستشهاد.
في حديث خصّ به " مستقبل ويب" يقارب الدكتور طالب السيرة الذاتية لرفيق الحريري بطريقة غير تقليدية فيقول " الذكريات كثيرة في مخيلة رفيق الحريري لا يحصيها المرء مهما بلغ من شأوٍ ومهما عَلَتْ همته واهتماماته. ولكن التجربة واجبة وضرورية لما عليه لمدينته، التي حضنت فكره وطفولته بين ثنايا رمالها البنية، وحجارة الصوّان في أرضها التي تأبى إلا أن تظل ثابتة ثبات أبطال صيدا في فكرهم وتراثهم المتناثر غباراً يتساقط على الأرائك المصنوعة بأيدٍ مهرة، فنخاف أن ننفضها لئلاّ تضيع. فيمد الرفيق يديه لينفضها فتتساقط كلمات وذكريات بأسلوب فذ بسيط ، وبكلمات محبوكة بحبال جدّه الذي صنع منها أرجوحة تروح وتجيء ، كمطبعة بدائية خطَّت آلاف الكتب بأحرف بسيطة صُفَّت بأنامل فنان دوَّخته أصوات التكتكة وأزالته مطابع العصر الحديث من صيدا القديمة، ولكنها لم تُزِلْهُ من ذهن وتفكير رفيق الحريري حيث تاريخ المدينة المطبوع بعقله الذي خطه في كتب تراثية صاغها فكر ثاقب متنوع في التاريخ والجغرافيا والشعر وعلم الرجال".
ويضيف"من بوابة بستان خضراء معلقة بجدار تعربش عليه الزمن ليصيغ من حجارته بنياناً غارقا في القدم والتراث بعشب أخضر نبت من بين ثناياه ليخط من نبته أول قصة تسمَّرت في كل جدار من بساتين صيدا المجبول بطين الأرض وماء الحياة المتدفق من باطن آبار حُفرت بسواعد مفتولة يراقبها الرفيق ويصيغها في مخيلته نغمات ونغمات .. تعمشق ذلك الفتى على شجرة الليمون المزهرة يُراقب من علوها سهولاً خضراء وأبنية تكاد تُرى من قريب وبعيد، لكن ارتفاع شجرة الليمون لم يكفِ الرفيق بعقله الكبير، فتعمشق شجرة من أشجار السرو المحيطة ببستان لم يملكه ، ولكنها أكبر وأعلى من كل أشجار مدينة صيدا المثمرة، لأنها تحجب غضب الطبيعة بهوائها لئلا يفتك بحِمل أشجار بستان ويزيد من عذابات الرفيق ووالده المخضب جبينه بعرق العمل والتعب المجبول بحب الأرض، وأم حنون خاطت من بقايا خيطانها وصنَّارتها أُمثولة تُرنم على شفتي الرفيق ..لتنبت أعشاباً خضراء تفرش دربه المحاط بأشجار" البوصفير، والحامض، والليمون، والأكيدنيا" ، والجنينة المزروعة بأزهار بيضاء تُحاكي غيم السماء الأزرق المسمر المنتظر من يحرِّكه من سباته العميق ليقطفه وينجِّد به فرشة الرفيق لينام عليها ويصوغ من لونها ورائحتها جدارية علقت في مخيلته بعد أن رُسمت بزيت الزيتون والزعترالأخضر المدقوق على أرض نبت منها رجال وأجداد جُبلوا بحب لا يموت".
ويقول" ما أبتغاه رفيق الحريري في مدينته صيدا ما هو مخبأ في خزائن المنازل القديمة وعلى رفوفها وفي غرفها ومصاطبها التي طالما اجتمع عليها أهل صيدا يروون قصص الماضي والعادات والتقاليد، ويدقوا الزعتر على أبواب منازلهم الأرضية فتفوح رائحته في أزقة المدينة ليعطِّر أنفاس المارة ويذكرهم بالزعتر والزيت الصافي حين يُلف في رغيف التلميذ الذاهب الى مدرسته فيسيل منه الزيت ليروي شوارع وأزقة صيدا علّه ينبت زيتونة مباركة بأوراق خضر ليرسم عليها صوراً تهزها الرياح الناعمة فلا تسقط لأن الأوراق ثابتة بأمر ربها".
ويتابع الدكتور قرة أحمد " لم ينس رفيق الحريري صولات الحكواتي وجولاته وعصاه التي لا تهدأ علواً وانخفاضاً وتحركاً يميناً وشمالاً في مقهى يعج بتنوع مريب من فعلة وأصحاب حرف وجدوا سلواهم في الاستماع لقصة عنترة وأبو زيد الهلالي والشاطر حسن في مقهى "الزجاج" ومقهى "خبيني" الحاضن لبسطاء صيدا ، ورفيق الحريري منهم للترفيه عن النفوس والاستراحة على فنجان من القهوة المرة والشاي المغلي والزهورات والبابونج واليانسون والليموناضة المبردة على الثلج لعدم توفر البرَّادات في تلك الفترة، سوى البرادات الخشبية المصنوعة بيد فنان صيدا الجويدي المتخصص في صنعها".
ويقول" وبعيداً وبالقرب من مدرسة فيصل كان مقهى "الجامعة" لمستأجره الأستاذ حوشو المدرِّس في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية ، والذي كان يرتاده رفيق الحريري. هذا المقهى الذي كان للمثقفين والطلاب والموظفين والمعلمين وأصحاب الدخل الحسن ، والذين تختلف نقاشاتهم عما كانت عليه في المقاهي الشعبية الآنفة الذكر لتنحصر في العلوم وذكر المؤلَّفات والشعراء ومطالعة الصحف والمجلات وتعاطي السياسة المحلية والعربية والإسلامية بنوع من النقد البنَّاء أحياناً واللاذع أحياناً أخرى. كيف لا ورفيق الحريري تلميذ مدرسة فيصل والتي كانت على درجة كبيرة من الوطنية المتمثلة بطلابها الذين لم يتركوا أية فرصة إلا وعبروا من خلالها عن تأييدهم للقومية العربية وجمال عبد الناصر وعن العداء للوجود الأجنبي في مدينة صيدا ولبنان، والذي تجسد عبر التظاهرات والتي في كثير من الأحيان كان رفيق الحريري يحمل على الأكتاف لينادي بما هو وطني ووحدوي وعروبي ، ولو كان لشوارع مدينة صيدا لسان لنطقت بصولات وجولات رفيق الحريري ورفاقه الذين شاركوه في أفكاره وهم كثر".
ويتابع"رفيق الحريري ابن مدينة صيدا التي ألبسته ثوب التواضع وحب اهلها والعيش بين جدران بساتينها في منزل كمنازل المدينة الذي يحاكي أشجار النارنج والليمون والحامض وزهر الياسمين ومساكب الورد الجوري وعبق الزهر الفواح. في منزل مع أمٍ وأبٍ حنون وأخٍ واختٍ كانت ترى فيه الأخ الذي كان يفتش دائماً عن التوق إلى مستقبل مشرق يغيِّر من خلاله حياة أهله من الحسن إلى الأحسن. من هنا فإن رفيق الحريري لم يستكن ولم يهدأ بل راح يشق طريق الشباب ليرسمه لهم بالبذل والعطاء وضمن ما هو متاح من دون كلل أو ملل، أو خروج عن التقاليد المجبولة بحب العائلة والتفاني في تقديم يد العون إلى عائلته وإلى كل من يطلب منه المساعدة، من دون كلل أو ملل".
ويقول " لم يترك رفيق الحريري مدينته صيدا بل تفانى في خدمتها.. وأول ما فعله هو بناء مدرسته ( فيصل الأول - مدرسة عائشة في مبناها الحالي ) فقدم الأرض وكل ما يلزم. وعاد ليفتش عن كل من قدم له يد العون ليكافئه ومن دون تمنين، لا بل ليشد أزرهم ويشكرهم ويرد لهم شيئاً من الجميل. وقد أفاض بذلك ومن دون أن ينزع عنه ثوب البساطة والحب ومن دون أن ينسى طوال حياته أنه ابن بيئة تربت على حب الآخرين والتضحية في سبيلهم في كافة الصعد. ورفع عن مدينته صيدا وبال الإجتياح الإسرائيلي الغاشم عام 1982 بكل ما أوتي من مستلزمات بنائية وإعمارية فسخر آلاته ومعداته في إعادة المدينة أجمل مما كانت، فدعم بلديتها وقواها الأمنية وسخر ما يملك لتوظيف أبنائها المهندسين والأطباء والمثقفين والعمال في خدمة مدينتهم وبعطاءات كبيرة ومن دون مقابل".
ويضيف" هي قصة رجل عامل أبدع وسكت فنّه برحيله فهل من مجدد أو مقلد؟؟ ..وهل من مؤرخ يصيغ رفيق الحريري لحناً غرِّد عبق تاريخ صيدا بسمفونية اعتلى عازفها مسرحها الممتد على شواطئها ليعزف من معينه لحن زمنها الغابر المناجي أمواجاً تكسَّرت بين ثناياها سفن أرادت بأشرعتها أن تسرق كنوز صيدا الدفينة بين صخورها الصامدة صمود قلعتها العصية على الزمن، الثابتة على لسان صخري ابتلع أعداءها وذوَّبهم بلعابه الحارق المبتل بمياه بحرها الهادر الهادئ الهاوي، هناء ورغد أهلها الذين نهلوا من صمود الأمم الغابرة التي أبت إلا الانتصار والانصهار بالنصر المبجل الآتي على خيول الحرية بنيَّة اللون سوداء الحوافر خضرية العيون، المشرئبة لترقب الزمن وغوائله بشعاع لا متناهي يسبر غور التاريخ والحضارة"!.
وينتهي الدكتور قرة أحمد للقول "مهما كتبت عن رفيق الحريري فقلمي لا يكفي ولا يفيه حقه ، وبالرغم من ذلك أكتب لأضع جزءاً من تاريخه في أحضان أهل مدينتي التي ربّى شبابها وهزهزهم بالاعتناء بهم وتعليمهم فتخرجوا رجالاً عظماء كباراً في المجتمع والحياة ، فقهاء وعلماء وأطباء ورجال سياسة سفراء لبلدتهم صيدا ووطنهم لبنان عبر العالم العربي والإسلامي وحتى الأوروبي. رفعوا اسم صيدا ولبنان ليدوَّن في المحافل الكبرى بأحرف من ذهب خالص نقيّ التبر نقاوة أهل صيدا العظماء البسطاء لرغد عيش كريم لا يقبل الذلّ ولا الهوان.. ولِمَا تقدم تحرّكت مشاعر الذكريات عندي لتخط البعض من تاريخ رفيق الحريري الذي يغلي في عروقي كلمات وكلمات وذكريات ومسيرة فرح وألم ومعاناة، وصور في مخيلتي أخاف عليها أن تزول قبل أن تُكتب"؟.
المصدر | رأفت نعيم - مستقبل ويب
الرابط | https://tinyurl.com/mrxv7de4
Posted by صيدا سيتي Saida City on Sunday, February 13, 2022
الرجاء الضغط على لوغو الفايسبوك لمشاهدة جميع الصور أعلاه