تسويات «التربية» على حساب الأهل والمعلّمين فقط
بالعودة قليلاً إلى الوراء، يمكن أن نتبين أن «سياسة التسويات» لم تكن مُجدية، بل مؤذية للمعلمين والأهالي، بدليل أنه عندما قرّرت الحكومة عام 1998 وقف التوظيف في القطاع العام، لم يتم توظيف مدرسين في ملاك الدولة إلا قلّة ضمن تسويات سياسية وانتخابية، وسلكت الدولة طريق التعاقد (غير القانوني) لسدّ الثغرات حتى صار عدد المتعاقدين يضاهي أساتذة الملاك (المتعاقد يقبض بدلاً على ساعة التعليم الفعلي، من دون ضمان صحي، ولا بدل نقل، ولا تعويض، ولا 12 شهراً، ولا استقرار وظيفيّاً، وغالباً ما يكون خاضعاً لمزاجية المدير والتبعية السياسية).
وحين صدر قانون سلسلة الرتب والرواتب، لم يتقاضَ معظم المعلمين في التعليم الخاص الدرجات الست بينما كان الأهالي منذ عام 2012 يدفعون ما سُمي «سلفة على أيّ زيادة مرتقبة» أضيفت إلى موازنات المدارس، وبالتالي إلى الأقساط. ولما اعترض الأهالي على الزيادات المبالغ فيها، جرى تجاهل مطلبهم من المراجع الرسمية في التعليم الخاص والمديرية العامة للتربية والوزير آنذاك. تراكمت المبالغ حتى عام 2018 في صناديق غير قانونية وتبخّرت عند إقرار السلسلة ولم يقبض المعلمون/ات حقوقهم التي سدّدها الأهالي بسبب التسويات التي قادتها الوزارة آنذاك لإرضاء المدارس، وليس لاستعادة حقوق الأهالي.
ومنذ ذلك الحين بدأت لجان الأهل تطالب بتفعيل المجالس التحكيمية التربوية التي لم تلتزم الوزارة بتشكيلها رغم أن القانون نصّ عليها منذ عام 1995، لأنها دخلت في تسويات لمصلحة المدارس الخاصة التي لا يناسبها تحويل ملفاتها إلى المحاكم. واستعاض الأهالي بقضاء العجلة الذي أصدر عشرات القرارات ولم تلتزم بها المدارس، وأحيلت 69 مدرسة إلى المجالس التحكيمية، ثم أُسقطت الدعاوى لعدم وجود محاكم بقرار من الوزير السابق مروان حمادة. ضُبطت مدارس تزوّر موازناتها وبنوداً فيها وتم التغاضي عنها لأن التسويات الطائفية والمحاصصات حالت دون ذلك وقضمت حقوق الأهالي مجدداً.
وفي كل مرة كانت التسوية تأتي على حساب المعلمين والأهالي، وليس على حساب المؤسسات التربوية التي ازدهرت أعمالها، إذ تأسّست أكثر من 112 مدرسة خاصة خلال 6 سنوات (بين عامَي 2011 و2017)، وتوسّعت لتجتاح التعليم العالي وتبني جامعات.
سياسة التسويات نفسها جعلت التعليم الرسمي يتراجع نتيجة غياب التفتيش والمحسوبيات والتسويات السياسية في التعيينات والتوظيفات، وفرّغت المركز التربوي من الكفاءات، وبرّرت اختفاء الهبات وسرقة الأموال المخصّصة للتربية أو هدرها. وبفضل هذه السياسة، جرت الاستعانة بمستشارين وهميين، ومارست لجنة التربية النيابية ضغوطاً لعدم إقرار القوانين الناظمة والمتقدمة لتحسين الأداء التعليمي.
مشكلتنا ليست مالية بل بنيوية. المال قد يكون مشكلة عندما تعطّل التسويات (على الطريقة اللبنانية) أي تحسين وتطوير وتقدم، لأن تناتش الحصص من مال التربية والمنح والهبات من الدول المانحة أهم من مستقبل المواطن في حسابات السياسيين.
من يجب أن نصدق: تقارير البنك الدولي واليونسكو ومنظمة العمل الدولية واليونيسف والباحثين المحليين أم دولتنا التي لم تحترم القوانين التي تضعها وتختار التسويات عليها؟ كل هذه التقارير التربوية تضعنا بواقعية أمام أزمتنا وهي حتماً ليست مالية، وهذه التقارير تضعها الجهات المانحة تمهيداً لدعم الدول المتعثّرة والمحتاجة للمساعدة إذا ما توفّرت النيّة لمعالجة أزماتها.
هل يبحث الوزير عن التسوية المناسبة والمال لتوزيعه حصصاً متكافئة على كل طرف وتناتش الهبات أم يريد حفظ حقوق الأهالي والمعلمين؟ وهل يعلم أن التعليم الخاص يحقق أرباحاً غير قانونية تتجاوز ربما ربع موازنة الدولة اللبنانية؟
كان لافتاً ما قالته لمى الطويل، رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور، خلال البرنامج: «الأزمة وإدارتها مسؤولية الدولة»، فابتسم لها الأب يوسف نصر، الأمين العام للمدارس الكاثوليكية، إذ أشار قبلها إلى ضرورة مساعدة الدولة للمدارس الخاصة مالياً ودفع مبلغ عن كل تلميذ. لكنّ الطويل لم تكن تقصد المساعدة المالية، بل أن تلتزم الدولة والوزارة بالقوانين، وأن يُفعَّل التفتيش والتدقيق المالي، وأن تُشكّل المجالس التحكيمية وأن يحصل المعلم على حقّه ضمن القانون، وأن تستقلّ الوزارة والموظفون عن التبعية السياسية والتسويات والمناكفات، وأن يلعب المركز التربوي دوره الحقيقي، وأن يحصّل أولادنا التعليم بتفوّق، وأن تعاد الأرباح إلى أصحابها، وأن تضع الدولة قوانين رعائية وتؤمّن الأمن التربوي والاجتماعي لكل المواطنين، هذه الدولة التي نريدها أن تقوم بدورها وأن تكون مسؤوليتها المواطن وليس التسويات.
المصدر| نعمة نعمة - باحث في التربية والفنون - الأخبار| https://www.al-akhbar.com/Lebanon/317772