معروف سعد: أيقونة النضال وصوت المحرومين
في رحاب التاريخ، تظلّ أسماء الرجال العظام محفورة في ذاكرة الأوطان، لا تُمحى بصروف الدهر ولا تغيب عن ضمير الشعوب. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم معروف سعد كنبراسٍ للحق، وشعلةٍ لا تنطفئ في دروب النضال، ورمزٍ خالد للدفاع عن المحرومين والمقهورين. لم يكن رجلاً عادياً، بل كان صرخةً في وجه الظلم، ويداً تمتدُّ نحو الفقراء، ودرعاً يحمي المظلومين من عاديات الزمن وغدر الطغاة.
شهادات الكبار: حين ينطق التاريخ
لم تكن سيرة معروف سعد حكراً على ألسنة محبيه فحسب، بل شهد له رجال الدين والسياسة والتاريخ بعلوِّ كعبه في ميادين النضال، فكان الإجماع عليه اعترافاً بمكانته الوطنية والإنسانية.
وقف الإمام موسى الصدر عند وداعه، يشيّعه لا بالبكاء، بل بكلماتٍ خالدة تليق بشهيد الحقّ، قائلاً:
"نحن لا نبكي معروف سعد، بل نهنّئه ونغبطه على موته، فقد خلد في سبيل المحرومين..."، مشدداً على أنّ دمه الطاهر أُريق ظلماً لأنه كان صوت الفقراء وملاذ المظلومين. لم يكن يسعى للخراب أو الفتنة، بل كان صمّام أمانٍ وسدّاً منيعاً في وجه مشاريع التدمير والتقسيم.
أما المونسنيور يوحنا الحلو، فقد أرخّ في مذكراته لحظات فارقة في مسيرة الرجل، مشيداً بإنسانيته التي تخطّت الطوائف والحدود، مؤكدًا حرصه على سلامة الجميع خلال اضطرابات عام 1958، حينما عمل على تهدئة النفوس وتبديد المخاوف، ليبقى في ذاكرة اللبنانيين رجلاً لا يعرف التعصب، ولا يحيد عن درب الوطنية الصافية.
ومن عالم السياسة، يأتي صوت بشارة مرهج، الذي رأى في اغتيال معروف سعد زلزالاً أصاب لبنان من شماله إلى جنوبه، قائلاً:
"إن هذه الرصاصات لم تستهدف رجلاً بعينه، بل أصابت قلب كل لبناني مخلص، وأشعلت شرارة الألم في كل بيتٍ فقير يتوق إلى العدالة."
لقد كان استشهاده علامة فارقة جمعت اللبنانيين الأحرار في وجه مشاريع الفتنة والتقسيم، فكان دمه صرخةً في وجه الظلم والتبعية.
رجل الشعب الذي لم يفارقه الشعب
لم يكن معروف سعد زعيماً برجوازيًّا ينظر إلى الفقراء من برجٍ عاجيّ، بل كان واحداً منهم، يعيش آلامهم، ويدافع عن لقمة عيشهم. لم يكن نائباً يزحف نحو الكرسي، بل زحفت النيابة إليه، إذ قيل عند فوزه عام 1957:
"النيابة زحفت إليه، ولم يزحف هو لها."
في عيون الصيادين، كان الأب الحنون، وفي أفئدة العمال، كان السند المتين. عندما خرج مع الصيادين في صيدا ليدافع عن أرزاقهم، لم يختبئ خلف الجموع، بل كان في المقدمة، يهتف بصوت الحقّ:
"يجب استيعاب جميع الصيادين، لبنانيين وفلسطينيين، فلا فرق بين مظلومٍ ومظلوم."
كان يعلم أن الرصاص ينتظره، لكنه لم يتراجع، فكان قدره أن يكون الشهيد الذي ترك خلفه قضيةً لم تمت، ورسالةً لم تطوَ صفحاتها بعد.
بين دفاتر المؤرخين وصفحات القضية
لم يكن اغتيال معروف سعد حادثةً معزولة، بل لحظة مفصلية في التاريخ اللبناني، إذ يرى المؤرخون أنه كان بمثابة الشرارة الأولى للحرب الأهلية. لم يكن سقوطه مجرّد فقدان زعيمٍ محلي، بل كان إعلاناً لصراعٍ بين مشروعين:
- مشروعٌ وطني عروبي ديمقراطي ينادي بوحدة لبنان وعروبته، ويطالب بتحديث نظامه وترسيخ العدالة الاجتماعية.
- ومشروعٌ طائفي فئوي متمسكٌ بامتيازاتٍ متعفّنة، يرفض الإصلاح، ويخشى زحف التغيير.
لم يكن معروف سعد بعيداً عن فلسطين، بل كانت قضيته جزءًا من نضاله. فمنذ شبابه، حمل البندقية للدفاع عن ثرى فلسطين عام 1948، وكان من أوائل اللبنانيين الذين انخرطوا في دعم ثورة عام 1936 حين كان معلماً في حيفا. لذا لم يكن استشهاده إلا استمرارًا لحكاية بدأت منذ عقود، حيث كان يرى في النضال الفلسطيني امتدادًا طبيعيًا لمعركته في لبنان، وحلقةً في سلسلة الدفاع عن الفقراء والمظلومين.
إرثٌ لا يموت... ومسيرة لم تنتهِ
لم تنتهِ قصة معروف سعد عند سقوطه، بل بدأت فصولها تتجدد مع كل من حمل مشعل النضال من بعده. بقيت ذكراه حيةً في وجدان الأحرار، تستعاد في كل حركةٍ مطلبية، وفي كل وقفةٍ احتجاجية تنادي بالعدالة. بقيت المؤسسات التي تحمل اسمه، والفعاليات التي تُقام سنوياً تخليداً لمآثره، شاهدةً على أن الرجل لم يكن مجرّد اسمٍ عبر التاريخ، بل روحاً لا تزال تسري في قلوب المخلصين.
إن معروف سعد لم يكن زعيمًا عاديًا، بل كان وجدان مدينة، وحكاية وطن، وأسطورة نضالٍ لم يطوِها الزمن. في صيدا، في بيروت، في فلسطين، وفي كل قلبٍ ينبض بالعروبة والعدالة، سيظلّ اسمه منقوشاً بأحرفٍ من نورٍ في سجلّ الخالدين. سلامٌ عليك يا معروف، فقد عشت كبيراً، ومتّ شهيداً، وبقيت رمزاً لا يزول.
إعداد | إبراهيم الخطيب