كامل كزبر | الانتماء الوطني في المدارس: بين الطقوس الرمزية والممارسات الفعلية
بقلم المربي الأستاذ كامل عبد الكريم كزبر:
أصدرت وزيرة التربية والتعليم العالي، الدكتورة ريما كرامي، تعميمًا جديدًا يهدف إلى تعزيز الانتماء الوطني في المدارس اللبنانية، وذلك من خلال إجراءات ملموسة تسهم في ترسيخ شعور الطلاب بالهوية الوطنية. وقد شملت هذه الإجراءات:
- رفع العلم اللبناني بشكل دائم فوق المباني المدرسية.
- إنشاد النشيد الوطني اللبناني صباح يوم الاثنين من كل أسبوع.
- إزالة أي أعلام أو مظاهر حزبية من المباني المدرسية.
وفي تعليقها على القرار، صرّحت وزيرة التربية قائلة: "يأتي هذا التعميم في إطار تعزيز الهوية الوطنية والشعور بالانتماء إلى الوطن، ونحن نؤمن بأن المدارس هي المكان الأمثل لغرس هذه القيم لدى الأجيال القادمة."
وعلى الرغم من أن رفع العلم وإنشاد النشيد الوطني خطوتان رمزيتان قويتان، يتساءل الكثيرون: هل يكفي ذلك لتعزيز الانتماء الوطني الفعلي؟
بين الرمزية والتأثير الفعلي
من الناحية التربوية، يُعَدّ الالتزام برفع العلم وإنشاد النشيد الوطني خطوة مهمة في بناء الهوية الجماعية لدى الطلاب، إلا أن هذه الإجراءات تبقى محدودة إذا لم تترافق مع تطوير مهارات التفكير النقدي وتعزيز الثقافة الوطنية. فالمؤسسات التعليمية لها دور أعمق من مجرد القيام بطقوس رمزية، إذ يمكن أن تشمل استراتيجياتها التربوية جوانب أكثر تأثيرًا في تعزيز الهوية الوطنية، ومنها:
1- تحديث المناهج الدراسية
ينبغي أن تتضمن المناهج التعليمية دروسًا متكاملة حول تاريخ لبنان، ثقافته، ورموزه الوطنية، مع التركيز على أهمية الوحدة الوطنية والتعايش بين مختلف الطوائف والمكونات اللبنانية. ومن الضروري العمل على إصدار كتاب تاريخ موحَّد يجمع اللبنانيين بدلاً من أن يفرقهم، ليكون مرجعًا يعزز الهوية الوطنية المشتركة.
2- تفعيل الأنشطة اللامنهجية
تُعَدّ الأنشطة خارج الصفوف الدراسية وسيلة فعالة لتعزيز الشعور بالانتماء الوطني. ويشمل ذلك تنظيم رحلات ميدانية إلى المعالم الوطنية، وعقد محاضرات ثقافية، وإقامة مسابقات حول تاريخ لبنان وتراثه، مما يرسّخ الروابط العاطفية بين الطلاب ووطنهم.
3- إشراك الطلاب في القضايا الوطنية
يجب تشجيع الطلاب على التفكير في القضايا الوطنية الكبرى، مثل حماية البيئة، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، من خلال أنشطة مدرسية تحثهم على اتخاذ مواقف إيجابية تجاه مجتمعهم، مما يعزز شعورهم بالمسؤولية الوطنية.
4- تعزيز التربية على المواطنة
إن ترسيخ قيم المواطنة الفاعلة، مثل احترام القانون، والمشاركة السياسية، والمساهمة في خدمة المجتمع، يُعَدّ من الأسس الضرورية لتعزيز الانتماء الوطني على المدى الطويل. لذا، من الضروري تطوير برامج تعليمية تُركّز على هذه المفاهيم وتُشجّع الطلاب على ممارسة المواطنة في حياتهم اليومية.
5- معالجة التناقض بين التعليم والواقع الحياتي
يُعَدّ التناقض بين القيم التي تُدرَّس في المناهج التعليمية والواقع الفعلي في المجتمع أحد أبرز العوامل التي تُضعف الانتماء الوطني. فالمناهج تشدد على أهمية المواطنة الصالحة، والانضباط القانوني، والديمقراطية، والمشاركة الفعالة في بناء الوطن، في حين نجد أن بعض ممثلي الشعب والمسؤولين، الذين يُفترض أن يكونوا قدوة، هم في كثير من الأحيان من أبرز الممارسين للفساد ومخالفي القوانين.
هذا التناقض بين المبادئ النظرية والممارسات الواقعية يؤدي إلى فقدان الثقة بالنظام السياسي، ويعمّق الإحباط لدى الطلاب، مما ينعكس سلبًا على ولائهم وانتمائهم الوطني. إن غياب التوافق بين ما يتم تدريسه في المدارس وبين سلوكيات المسؤولين دون محاسبة، يزيد من التحديات التي تواجه المجتمع في تعزيز القيم الوطنية، ويدفع باتجاه تآكل الثقة في الدولة.
لذا، فإن التغيير لا ينبغي أن يقتصر على المؤسسات التعليمية فقط، بل يجب أن يرافقه التزام واضح من قبل المسؤولين بتطبيق القيم الوطنية التي تُدرَّس للأجيال الجديدة، وذلك عبر تعزيز الشفافية والمحاسبة، ليكونوا قدوة حقيقية للشباب، مما يعزز مصداقية النظام ويزيد من شعور الأفراد بالانتماء إلى وطنهم.
الانتماء الوطني بين الواقع والمأمول
لا شك أن لبنان يتميز بتراث ثقافي غني وتعدد طائفي يعكس تنوعه، كما يُعَدّ النشيد الوطني اللبناني جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية، حيث يرافق معظم النشاطات الرسمية والاجتماعية. ولكن رغم ذلك، فإن الشعور العميق بالانتماء الوطني لا يزال يعاني من فجوات نتيجة التركيبة السياسية والطائفية المعقدة، التي قد تؤدي إلى تباين في مفهوم الوطن والانتماء إليه، مما يجعل ولاء الأفراد يتوزع أحيانًا بين الطائفة أو الجماعة السياسية التي ينتمون إليها وبين الوطن ككل.
وبالرغم من أن لبنان من أكثر الدول استهلاكًا للنشيد الوطني، فإن قرار وزيرة التربية برفع العلم اللبناني وإنشاد النشيد الوطني يُعَدّ خطوة إيجابية نحو تعزيز الهوية الوطنية في المدارس، لكنه يبقى غير كافٍ إذا لم يُدعَم بجوانب تربوية أخرى. فالانتماء الوطني لا يُبنى فقط عبر الطقوس الرمزية، بل من خلال تجسيد القيم الوطنية في الحياة اليومية للطلاب، وترسيخها من خلال الممارسات الفعلية، مما يضمن أن يكون هذا الانتماء عميقًا ومستدامًا.