المرجعية والسلطة الدينية في العصر الرقمي
شهدت المرجعية الدينية في العصور السابقة استقرارًا نسبيًا؛ إذ كانت المؤسسات الدينية الرسمية، مثل الأزهر في مصر أو الهيئات الشرعية في الدول الإسلامية، هي التي تتحكم في إصدار الفتاوى وتوجيه الخطاب الديني. العلماء كانوا المرجع الأول والوحيد تقريبًا، حيث يحصلون على الشرعية من تكوين علمي رصين وسنوات من الدراسة الفقهية والشرعية. هذه البنية الهرمية جعلت المرجعية واضحة: من الأعلى (العالم والمؤسسة) إلى الأسفل (الجماهير).
إلا أن العصر الرقمي أحدث تحوّلًا جذريًا في هذا المشهد. فقد أدى ظهور السوشال ميديا إلى تفكيك تلك المركزية التقليدية. اليوم، أصبح الطريق إلى المرجعية أوسع من أن يقتصر على المؤسسات الكبرى، بل بات أي شخص يمتلك مهارة في صناعة المحتوى، ومعرفة سطحية أو حتى جزئية بالدين، قادراً على جذب جمهور واسع والتأثير في وعيه. هؤلاء صار يُطلق عليهم "المؤثرون الدينيون"، الذين يستثمرون قوة الصورة والفيديو والإيجاز في الوصول إلى ملايين المتابعين.
صعود المؤثرين الدينيين
- شاب على منصة تيك توك يقدّم مقاطع قصيرة مدتها دقيقة واحدة، يتحدث فيها عن حديث نبوي أو قصة قرآنية بلغة شبابية سهلة، فيتابعه ملايين الشباب الذين لم يقرأوا كتابًا دينيًا في حياتهم.
- أو شخصية مؤثرة على إنستغرام تنشر "ريلز" عن فضائل الأعمال مقرونة بتصميم بصري جذاب، فتنتشر بشكل فيروسي.
هذه الشخصيات لا تمتلك بالضرورة تكوينًا علميًا تقليديًا، لكن حضورها الرقمي يمنحها مكانة مؤثرة تفوق أحيانًا مكانة عالم دين في مسجد محلي.
جدل المصداقية
هنا يظهر إشكال المصداقية. فالمؤسسات الدينية التقليدية تستند إلى النصوص الأصيلة (القرآن والحديث والفقه)، وتخضع لنظام مراجعة وضبط داخلي. بينما على المنصات، قد تنتشر آراء واجتهادات غير دقيقة أو حتى مغلوطة. مثال ذلك: انتشار فتوى مجهولة المصدر على واتساب حول حكم لقاح كورونا، ما أدى إلى ارتباك بين الناس. في المقابل، المؤسسات حاولت الرد عبر مواقعها الإلكترونية أو حساباتها الرسمية، لكن سرعة المنصات وقوة الخوارزميات كانت أسبق في الوصول إلى الجمهور.
هذا الجدل يعكس فجوة بين المعرفة الرصينة والمحتوى السريع. فالشاب الذي يتلقى فتوى عبر مقطع قصير قد يكتفي بها ولا يبحث في المصادر الأصلية، مما يفتح الباب لخلط الحقائق بالشبهات.
انتقال المرجعية من الهرم إلى الشبكة
تحوّلت المرجعية من بنية هرمية إلى بنية أفقية شبكية. في الماضي، العالم أو المؤسسة يقف على قمة الهرم ويخاطب قاعدة واسعة من الناس. المرجعية أصبحت موزعة على آلاف الحسابات والمجموعات الرقمية. الفرد العادي يتنقل بين عشرات الصفحات والقنوات، ولا يكتفي بالاستماع إلى شيخ واحد.
- مسلم يعيش في أوروبا قد يتابع عالمًا تقليديًا من بلده الأم على يوتيوب، ويقرأ مقالات مفكر إصلاحي على تويتر، ويشارك في مجموعة واتساب مع شباب يناقشون قضايا دينية يومية، ثم يشاهد مقاطع قصيرة لداعية رقمي على تيك توك. المرجعية هنا شبكة متداخلة من الأصوات.
التحديات والفرص
هذا التحوّل يطرح تحديات كبرى:
- كيف نضمن موثوقية الخطاب الديني في بيئة مفتوحة؟
- كيف نمنع السطحية أو الاستعراض من أن تحل محل الفهم العميق؟
- كيف تواجه المؤسسات التقليدية هذا التحول دون أن تخسر مكانتها؟
وفي الوقت نفسه، يفتح فرصًا مهمة:
- توسيع دائرة الوصول إلى الدين لتشمل فئات شابة كانت بعيدة عن المساجد.
- تجديد طرق عرض المعرفة الدينية بلغة تواكب العصر.
- بناء شبكات تعلّم جماعية بدل الاقتصار على صوت واحد.
موازنة الأصالة مع التجديد
المرجعية والسلطة الدينية في العصر الرقمي لم تختفِ، لكنها تغيّرت من شكل مركزي هرمي إلى شكل شبكي متنوع. التحدي الأكبر هو موازنة الأصالة مع التجديد، وضمان أن تبقى النصوص الأصيلة هي المرجع النهائي، في وقت أصبحت فيه المنصات الرقمية الحاضنة الأكبر للخطاب الديني.