صلاح الدين أرقه دان: قصة ولادة جامع الإمام علي (منطقة الفيلات صيدا)
بقلم الدكتور الشيخ صلاح الدين سليم أرقه دان:
كانت منطقة الفيلات المجاورة لمنطقة عين الحلوة بقسميها الفيلات وعمارات التعمير، والواقعة بين طريق المستشفى الحكومي وطريق المية ومية، مكتظة بالصيداويين الذين خرجوا من المدينة القديمة (داخل السور) نتيجة لزلزال 1958م، وبسبب اكتظاظها، وكانت الدولة اللبنانية قد أنشأت إدارة التعمير، التي تحولت فيما بعد إلى وزارة الإسكان، لحل المشكلتين معًا الزلزال وتصدع بعض أحياء المدينة القديمة، وأيضًا للقيام بواجبها في توفير السكن للسكان الذين هم في ازدياد مضطرد.
لم يكن في هذه المنطقة الحديثة المكتظة بالسكان مصلى ولا مسجد واحد يلبي حاجة أهلها لأداء الصلوات الخمس والجمعة والعيدين.
وفي جلسة ضمت مجموعة من الشباب الثانوي، في مسجد بطاح، داخل البلدة القديمة، بينهم صلاح الدين أرقه دان (الأستاذ الجامعي لاحقًا) وموفق الرواس (المحامي) وعبد الرحمن حجازي (الدكتور التربوي) وبسام صفدية (الحاج)، وغيرهم لا تحضرني للأسف أسماؤهم، قال الأخ عبد الرحمن إن الحركة الاجتماعية (رئيسها الكاهن غريغوار حداد) قررت بناء مركز لها في منطقة الفيلات، وأسهب في شرح الموضوع بأن في تلك المنطقة ثلاث قطع خصصتها إدارة التعمير لإقامة مسجدين وكنيسة، وتابع الأخ عبد الرحمن، فقال: أما الكنيسة فهناك بالفعل كنيسة مجاورة للمنطقة (ما زالت قائمة حتى اليوم) ولكن لا يوجد فيها مسجد.
هنا تحمس الشباب وأجمعوا إن إقامة مسجد في تلك المنطقة من الأولويات، وعلينا أن نقوم بخطوة عملية، جمعنا ما معنا من قروش فلم تتجاوز السبع ليرات، تم تكليفي بعمل لافتة تحمل الكلمات التالية: (هنا يشاد مسجد الإمام علي بن أبي طالب)، وبالفعل في نفس اليوم قصدت الخطاط سنو (رحمه الله)، وطلبت منه عمل هذه اللافتة، أجاب الرجل بابتسامته المعهودة: ولكن مثل هذه اللافتة حتى تظهر للعيان ينبغي ألا تقل عن عشرة أمتار، وأنا أتبرع بعملي، ولكن تكلفة القماش والمواد ستكون خمسة عشر ليرة. قلت: معي سبعة وأسدد الباقي عند انتهاء اللافتة، وهكذا كان.
تسلمتها في اليوم التالي، وسددت الباقي، وسلمتها للأخ موفق الذي كلف من رفعها بين عمودين من أعمدة الكهرباء في تلك القطعة المحددة على زاوية طريق المية ومية غير بعيدة عن الكنيسة المذكورة، ولكنها ظهرت صغيرة، تفاجأنا بعد عدة أيام باستبدالها بلافتة كبيرة تظهر جلية للعيان تحمل نفس الكلمات، وحتى الآن لم نعرف من الذي تبرع بها، جزاه الله خيرًا.
في جلسة لاحقة لنفس المجموعة، أخذنا نبحث في مشروعية هذا العمل، فالأرض ملك إدارة التعمير، وبدون إذنها، قد تكون أرضًا مغتصبة، وبحسب الشريعة الإسلامية لا تصح الصلاة في الأرض المغتصبة، فما العمل؟ قرر الأخوة تكليفي بمتابعة هذا الأمر مع إدارة التعمير ومركزها كما أذكر في بيروت ببناية اللعازارية، قصدت المبنى وسألت عن مكاتب الإدارة، وعلمت أن المدير من آل الدحداح، تخونني الذاكرة في استرجاع اسمه، المهم، دخلت على الرجل بلا موعد، استقبلني بابتسامة واستمع لطلبي إجازة إقامة الجامع، فأجاب بهدوء وثقة: لقد تم حل إدارة التعمير وتم إنشاء وزارة خاصة بالإسكان، وستؤول أملاك وأعمال التعمير إلى الوزارة، فلست أملك صلاحية الإجازة أو المنع، ولكن أقول لك: من الذي سيجرؤ على منع إقامة معبد لله! اذهب وتابع هذا العمل الطيب.
عدت بالجواب للأخوة ورأينا جميعًا أن جوابه كاف، ولا مانع من أن نتابع العمل.
أما كيف تم العمل؟! فقصة تؤكد مآل النية الحسنة، والبركة التي يؤمن بها أهل صيدا، تم الاتفاق مع المرحوم أبو سعد محمد نضر، وكان مقاولًا محليًا، على أن يتولى تنفيذ المشروع، وهو يعلم أننا نبدأ من الصفر، حفر الرجل مشكورًا الحفرة اللازمة، على أن نسدد التكلفة لاحقًا، فلما رأى الناس أن العمل ميداني بدأت التبرعات تتابع بسلاسة ويسر، تبرع جيران المسجد بتوفير المياه اللازمة، وبعضهم بخط كهرباء، وهناك من تبرع بالحديد، وآخر بالحجارة، وثالث بالإسمنت، إلخ..
ومن بركة المسجد أن من لا يملك مالًا لم يتوقف عن المساهمة، فالبعض تبرع بحراسة المواد، والبعض تبرع بساعات عمل لله بدون مقابل، ويمكنني القول بكل ثقة بأن المشروع كان مشروع المنطقة كلها، وكانت البركة الرئيسة في المشروع نفسه كبار السن، وفي مقدمتهم المختار الحاج أبو منير السكافي (رحمه الله) الذي لم يتوان ساعة عن زيارة المشروع والسؤال عن المطلوب، وأظنه كان يحث من يعرف على المساهمة، لقد رعى هؤلاء كبار السن المشروع خطوة خطوة وكانوا أول من وقف في صفوف الصلاة يوم افتتاحه.
تحول المسجد فيما بعد إلى مجمع يقدم الخدمات الطبية والاجتماعية ويرعى فئة اليافعين والشباب، وكل ذلك ببركة معلومة طيبة خرجت من فم رجل محب لعمل الخير، حريص على مجتمعه، هو عبد الرحمن عثمان حجازي (رحمه الله)، ومعه ثلة من الشباب وضعوا النواة، وتعاون سكان منطقة الفيلات وجوارها جميعًا لرفع الصرح وعمارته بالعبادة، وحلقات القرآن الكريم، والفقه الشريف.
جزى الله تعالى كل من ساهم، ويساهم حتى اليوم، وإلى يوم القيامة، في مثل هذه الأعمال التي تخدم المجتمع وتحافظ على القيم.
خاص موقع صيدا سيتي