صيدا سيتي

رحلة العودة إلى الجوهر واستعادة البوصلة الأصيلة

إعداد: إبراهيم الخطيب - الخميس 30 تشرين أول 2025 - [ عدد المشاهدة: 85 ]

أولاً: نداء الداخل وبوصلة الذات

يختبر الإنسان، في مراحل مختلفة من حياته، شعورًا غامضًا يوجّهه نحو مسار محدّد، كأنّ هناك قوّة داخلية تستدعيه للسير في طريق بعينه. هذا الإحساس لا يرتبط بالصدفة، بل ينبع من عمق التجربة الإنسانية التي تحمل في داخلها ما يشبه “النداء الداخلي” أو “بوصلة المعنى”.
يرى الطبيب والمفكّر الكندي جيمس هيلمان (James Hillman)، أحد أبرز منظّري علم النفس التحليلي في النصف الثاني من القرن العشرين، أن لكل إنسان جوهرًا فريدًا يولد معه، يظلّ يهمس له بما يناسب طبيعته ودوره في الحياة. يشير هيلمان في كتابه “رمزية الروح” (The Soul’s Code, 1996) إلى أنّ هذا النداء ليس فكرة ميتافيزيقية، بل تعبير عن استعدادات فطرية تتجلّى عبر ميول الطفولة، والأحلام، والخيالات المبكرة، لتدلّ الإنسان إلى وجهته الأصيلة.

فحين يتذكّر الفرد لحظةً شعر فيها بانجذابٍ داخلي قويّ نحو أمرٍ ما - كالرغبة في الكتابة، أو العزف، أو مراقبة الطبيعة - فإنّه في الحقيقة يتواصل مع ذلك الجزء العميق من ذاته الذي يعرف وجهته. يعبّر هيلمان عن هذه التجربة بقوله: “الحياة رحلة لاستعادة ما عرفته روحك منذ البداية.”

ثانياً: ضياع الإشارة في زحمة الحياة

مع مرور الوقت وتزايد الخبرات، يفقد كثير من الناس القدرة على الإصغاء لذلك النداء الداخلي. فكلما تراكمت المعارف الخارجية، واشتدّ ضغط الواقع المهني والاجتماعي، غابت إشارات الجوهر خلف ضوضاء الحياة اليومية.
هذه الظاهرة يمكن ملاحظتها في مسارات مهنية عديدة. فكم من طبيب أو مهندس أو معلم وجد نفسه بعد عقدين من العمل يشعر بالفراغ، رغم النجاح الظاهري! وغالبًا ما تعود هذه الحالة إلى ما يسميه عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (Abraham Maslow) بـ“اغتراب الذات” في هرمه للحاجات الإنسانية (1943)، أي الانفصال بين ما يفعله الإنسان وما يشعر أنه خُلق لأجله.

على سبيل المثال، أظهرت دراسة صادرة عن جامعة هارفارد عام 2019 أنّ 52% من الموظفين في الولايات المتحدة لا يجدون معنى في أعمالهم اليومية، رغم حصولهم على رواتب مرتفعة. ويُعزى ذلك إلى غياب التوافق بين “الجوهر الداخلي” ومتطلبات الدور الوظيفي الخارجي. وهنا تتضح أهمية استعادة الصلة بالنفس الحقيقية لتصحيح المسار الوجودي والمهني.

ثالثاً: العودة إلى الجذور الأولى

يدعو هيلمان إلى إعادة الاتصال بالجذور الأولى للفرد، أي بالمرحلة الطفولية التي تظهر فيها الميول الأصيلة دون تكلّف أو تأثير اجتماعي. ففي الطفولة، يتجلى الكيان الإنساني في أنقى صوره، وتبرز إشارات دقيقة تشي بملامح الموهبة أو الرسالة المستقبلية.
يُروى أن العالِم ألبرت أينشتاين، وهو في الخامسة من عمره، أُهدي بوصلة صغيرة، فشدّه الفضول لمعرفة سبب ثبات الإبرة في اتجاهٍ واحد، ما ولّد داخله رغبة عميقة في فهم قوانين الطبيعة. تلك اللحظة البسيطة تحوّلت إلى بذرةٍ لرحلة علمية غيّرت وجه العالم.

ومثل ذلك، نجد في سيرة الرسّامة المكسيكية فريدا كالو (Frida Kahlo) أنّها، رغم إصابتها بشلل جزئي في طفولتها وحادثٍ مروّع لاحقًا، عادت إلى دفاتر الرسم التي كانت تملؤها في صباها، لتجد فيها وسيلتها الوحيدة للتعبير عن الألم والتحوّل إلى رمزية فنية عالمية.

هذه الأمثلة تبيّن أنّ البحث عن جذور الذات في تجارب الطفولة لا يهدف إلى استعادة الماضي، بل إلى إعادة اكتشاف “المعنى الأصلي” الذي كان كامناً منذ البداية.

رابعاً: الإشارات الخفية ومسارات الشغف

يُوصي هيلمان بأن يفتّش الإنسان في حياته عن الإشارات الخفية التي دلّت على ميوله الحقيقية: الرغبة المتكرّرة في نشاطٍ معين، أو الشغف الذي لا يخبو مع الوقت، أو الفضول تجاه موضوعٍ محدّد. فهذه العلامات تمثل خيوطًا رفيعة تربط الحاضر بالمصدر الأصلي للذات.
وفي علم النفس الإيجابي الحديث، يؤكد الباحث مارتن سليغمان (Martin Seligman) في كتابه “السعادة الأصيلة” (Authentic Happiness, 2002) أنّ تفعيل نقاط القوة الشخصية - كالفضول أو الإبداع أو الحسّ الجمالي - يقود إلى شعورٍ أعمق بالرضا والإنجاز.

من الأمثلة الواقعية على ذلك تجربة رائدة الأعمال الأمريكية سارة بلاكلي (Sara Blakely)، التي أسست شركة “Spanx” عام 2000. فقد كانت منذ طفولتها تُظهر حسًّا عاليًا بالملاحظة والتفكير في التفاصيل العملية للملابس النسائية، وهو ما قادها إلى ابتكار منتج ثوري جعلها أصغر مليارديرة عصامية في تاريخ الولايات المتحدة. إنّ نجاحها أتى من إصغائها المبكر لتلك الإشارة الكامنة في داخلها.

خامساً: المهمة الحياتية واستعادة الشعور بالإنجاز

يؤكد هيلمان أنّ استعادة الاتصال بالجوهر الداخلي في أي عمر تمثل لحظة تحولٍ جوهري في حياة الفرد. فعندما يجد الإنسان النشاط أو المجال الذي يوقظ داخله الشعور بالفرح الخلّاق، يبدأ بالتحرّك على المسار الذي يشكّل “مهمته الحياتية” أو “دعوة روحه”، بحسب تعبيره.
وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2018 بعنوان “البحث عن المعنى عبر الأدوار الحياتية” أنّ الأفراد الذين يرون في عملهم رسالة شخصية يشعرون بنسبة رضا أعلى بـ 61% مقارنة بغيرهم، ويتّسمون بقدرة أكبر على مواجهة الضغوط والتعافي النفسي.

في هذا السياق، يمكن استحضار تجربة الكاتب الروسي ليو تولستوي (Leo Tolstoy)، الذي مرّ بأزمة وجودية حادّة في منتصف عمره بعد أن شعر بفراغ الشهرة والمكانة الاجتماعية، فانسحب إلى الريف وعاد للكتابة بروحٍ تأملية رسالية في مؤلفه “اعترافاتي” (Confession, 1882)، حيث استعاد من خلالها رسالته الأخلاقية والإنسانية. هذه العودة إلى الجوهر جعلته يعيد صياغة مفهوم الأدب كوسيلة لإصلاح الروح والمجتمع.

سادساً: استدعاء الذاكرة عبر الآخرين

من الوسائل التي يقترحها هيلمان لاكتشاف الميول الأصيلة، سؤال شخصٍ يتذكّر طفولتنا عن الأمور التي كانت تثير اهتمامنا آنذاك. فذاكرة الآخرين قد تحفظ لنا صورًا نسيها العقل الواعي لكنها ما زالت تحمل دلالات عميقة على هويتنا الحقيقية.
تشير الباحثة الأمريكية كارول دويك (Carol Dweck) في دراستها حول “عقليات النمو” (Mindset, 2006) إلى أنّ التحفيز الأولي الذي يتلقاه الطفل من محيطه الاجتماعي يكوّن ما يشبه الخريطة الذهنية للقدرات. فحين يصف الأهل أو الأصدقاء ميول الطفل نحو الرسم أو النقاش أو الاستكشاف، فإنهم يسهمون - دون قصد - في تشكيل إدراكه لجوهره الذاتي.

وفي مثالٍ من الواقع العربي، تروي الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في سيرتها الذاتية “رحلة جبلية، رحلة صعبة” (1985) أنّ أخاها إبراهيم كان أول من انتبه إلى موهبتها الشعرية في طفولتها، حين كانت تخطّ الأبيات خفيةً على جدران البيت. هذا الاكتشاف المبكر، الذي حفظه الآخر، غيّر مسار حياتها وأطلق واحدة من أبرز الأصوات الشعرية النسائية في القرن العشرين.

سابعاً: الجوهر كطاقة متجددة للنهضة الفردية

إنّ العودة إلى الجوهر الداخلي تمثل انخراطًا أعمق في الواقع على نحو أكثر صدقًا وفاعلية. فحين يكتشف الإنسان مهمته، يتغيّر معنى الزمن والجهد لديه، إذ تتحول الأعمال العادية إلى ممارسة ذات مغزى.
لقد أثبتت دراسات علم الأعصاب الحديثة، مثل تلك التي نشرتها جامعة إم آي تي (MIT) عام 2021، أنّ الدماغ يُفعّل مناطق المكافأة والتحفيز بشكلٍ مضاعف عندما يقوم الفرد بنشاطٍ يتماهى مع ميوله الفطرية، ما يزيد من طاقته الإبداعية وقدرته على التعلّم المستمر.

في هذا الإطار، تصبح “العودة إلى الذات” جزءًا من مشروع النهوض الفردي، الذي يمهّد للنهوض الجمعي. فالمجتمعات لا تزدهر إلا عندما يعمل كلّ فرد وفق طبيعته ومواهبه الأصيلة، كما عبّر المفكّر الفرنسي أندريه مالرو (André Malraux) بقوله: “أعظم الثورات تبدأ في أعماق النفوس.”

ثامناً: رحلة نحو الحقيقة الكامنة

يمثّل “الشيء الموجود في داخلك”، كما وصفه جيمس هيلمان، نواةً للهوية الحقيقية التي تظل ترافق الإنسان طوال حياته، تنتظر لحظة الاستدعاء. وقد تختلف مظاهر هذه الدعوة بين شخص وآخر، لكن معناها واحد: الإصغاء إلى ما فُطر عليه القلب والعقل معًا.
إنّ هذه الرحلة هي عودة إلى البذرة التي نبتت في أعماقه منذ الطفولة. فحين يكتشفها ويصقلها، يتحوّل من مجرّد كائن يسعى للبقاء إلى إنسانٍ يعي رسالته في الوجود، ويمنح العالم ما خُلق ليقدّمه.


 
design رئيس التحرير: إبراهيم الخطيب 9613988416
تطوير وبرمجة: شركة التكنولوجيا المفتوحة
مشاهدات الزوار 1007065819
الموقع لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة فيه. من حق الزائر الكريم أن ينقل عن موقعنا ما يريد معزواً إليه.
موقع صيداويات © 2025 جميع الحقوق محفوظة