جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا - 146 عامًا من الرسوخ والعطاء
على مدى ما يزيد عن قرنٍ ونصف، كانت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا - ولا تزال - منارةً حضاريةً شامخة، تجمع بين الأصالة والحداثة، وتشكل حاضنة للعلم، وقلعة للدفاع عن الهوية الوطنية والثقافية، في وجه رياح التغريب والتحديات المتعاقبة. ومع حلول الذكرى السادسة والأربعين بعد المئة لتأسيسها، نستحضر السيرة العطرة لهذه الجمعية، التي بدأت ببذرة صغيرة غرسها شباب من أهل المدينة، سرعان ما نمت لتصبح شجرة وارفة الظلال في سماء التربية والتعليم.
لحظة التأسيس - من وحي الحاجة ورسالة الوعي
في الثامن عشر من نيسان سنة 1879م، وفي زمنٍ كانت فيه الأمية سائدة، والتعليم حكرًا على الميسورين، بزغ فجر المقاصد من قلوب فتية أدركوا أن العلم ضرورة لا تنهض الأمم إلا به. شباب من صيدا، حملوا هم أمتهم، واستشعروا مسؤوليتهم التاريخية، فأنشؤوا أول صرحٍ تربوي في مدينتهم، ليكسروا احتكار المعرفة ويمنحوها لأبناء مجتمعهم دون تمييز.
كان التأسيس فعل مقاومة ثقافية بامتياز، في وجه المد التغريبي القادم من البعثات الأجنبية، وتعبيرًا عن إيمان عميق بأن النهوض لا يتحقق إلا بالعلم المؤصل، الذي يجمع بين الإيمان والانتماء.
المقاصد كحصن للهوية ومنارة للنهضة
منذ نشأتها، وقفت جمعية المقاصد شامخةً في وجه محاولات طمس الهوية، حامية للغة العربية، ورسالة الإسلام، وقيم المواطنة الصالحة. أصبحت مقاعدها محاضن للعلم، ومشاغل لصقل الأجيال، ومراكز لتخريج القادة والمصلحين والعاملين في شتى المجالات.
خرج من المقاصد رجال ونساء كانت لهم بصمات بارزة في نهضة الوطن، سواء في ميادين الطب والتعليم، أو في ساحات القانون والسياسة، أو في مرافق الخدمة العامة والمجتمع المدني. حملوا معهم شعلة المقاصد، وامتد نورها إلى ما بعد صيدا، ليبلغ لبنان والعالم العربي وأبعد.
المقاصد بعد النكبة - الثبات في وجه العواصف
بعد نكبة فلسطين عام 1948، وجدت صيدا نفسها أمام تحديات اجتماعية واقتصادية وتربوية مضاعفة، مع موجات النزوح والتغيرات الديموغرافية. لكن المقاصد لم تتراجع، بل تقدمت الصفوف، موفرة التعليم للوافدين كما للمقيمين، حافظةً التوازن الاجتماعي، ورافعة لواء التضامن الوطني.
واليوم، لا تزال الجمعية شاهدةً على صلابة الجذور، وقوة الرسالة، وروح العطاء التي لا تنضب.
استمرارية الروح - من جيل المؤسسين إلى جيل الأوفياء
يعود استمرار جمعية المقاصد إلى تلك السلسلة الذهبية من الرجال الأوفياء، الذين تسلموا الراية جيلاً بعد جيل. فها هم خلف المؤسسين، أبناء المدينة المخلصين، يواصلون المسيرة بثبات، يحملون الأمانة بعين على المبادئ التي غُرست منذ التأسيس، وأخرى على مستجدات العصر، لضمان مواكبة دائمة دون التفريط بالثوابت.
وتمضي المقاصد قدمًا في نهجها، عبر برامج تعليمية متجددة، وشراكات تربوية واسعة، وتفاعل مجتمعي لا ينقطع، لتبقى في طليعة المؤسسات التربوية، واسمها مرفوعًا في سماء صيدا ولبنان والعالم.
المقاصد... ذاكرة الأمة ونبضها
إن جمعية المقاصد صفحة من صفحات تاريخ صيدا الناصعة، وهي ذاكرة نابضة، تتكامل فيها الحكمة مع الإيمان، والعلم مع العمل، والتاريخ مع الأمل. وهي باقية ما بقيت الإرادة الصادقة، والأيادي التي تبني، والقلوب التي تؤمن بأن التربية هي السبيل الأوحد للنهضة.
كل عامٍ والمقاصد بخير، ومجتمعها بخير، وأمتها إلى خير ورفعة وازدهار.
إعداد: إبراهيم الخطيب