صيدا بين تحديات الحاضر ورؤى الغد - زيارة د. مصطفى كامل نموذج للحوكمة البيئية الرشيدة
في مدينةٍ لها من العراقة ما يوازي حجم تحدياتها المعاصرة، تبرز صيدا اليوم ليس فقط كواجهة بحرية مشبعة بالرمزية التاريخية، بل كمساحة نشطة في ميدان الحوكمة البيئية والتطوير المؤسسي. زيارة وزير البيئة المصري الأسبق ومدير المركز الإقليمي لاتفاقية "بازل" للدول العربية، الدكتور مصطفى كامل، إلى القصر البلدي في صيدا، تضعنا أمام لحظة نوعية في إدارة ملف من أكثر الملفات تعقيدًا: معالجة النفايات.
إدارة منفتحة على الخبرات
رئيس بلدية صيدا، الدكتور حازم خضر بديع، استقبل الوفد الزائر بما يعكس روحًا إدارية منفتحة على الشراكة والخبرة. هذا اللقاء الذي جمع ممثلين عن المجتمع المدني، والقطاع الفني، والمستشارين القانونيين، لم يكن بروتوكوليًا، بل منصة تفاعلية لمراجعة الأداء البيئي للمعمل الواقع في سينيق، الذي بات محط أنظار محلية وإقليمية.
الخطوة الأكثر لفتًا، كانت في إشراك د. كامل لا كخبير محايد فحسب، بل كمستشار مشارك في بحث أوجه التطوير، ومراجعة البنود القانونية التي تحكم العلاقة بين البلدية وإدارة المعمل. هذا التحرك يدلّ على نضج مؤسسي آخذ بالتبلور في إدارة الشأن العام الصيداوي.
المعمل البيئي... مركز اهتمام استراتيجي
تحول معمل معالجة النفايات في صيدا من مجرد مشروع خدمي، إلى ملف تتقاطع فيه السياسة البيئية، مع الإدارة القانونية، والشراكة المجتمعية. الجولة الميدانية التي قادها رئيس البلدية، شكّلت اختبارًا عمليًا لنوايا الإصلاح، وعرضًا مباشرًا لخطة تطوير تقنية مفصّلة من قبل الإدارة.
الرسالة هنا واضحة: البيئة في صيدا لم تعد رهينة الحلول الظرفية، بل أصبحت مجالًا للمعالجة العلمية والتخطيط القائم على التعاون الإقليمي والدولي. ويُضاف إلى ذلك إشراك الخبرات الوطنية من مهندسين، وخبراء قانونيين، وممثلين عن جمعيات التنمية، في لوحة تُعيد رسم مشهد العمل البلدي على أسس علمية رشيدة.
البُعد القانوني... ضمانة التحول المستدام
اللافت أيضًا هو الطرح القانوني الذي رافق اللقاء. إذ بُحثت إمكانية تعديل بعض بنود الاتفاقية الموقّعة بين البلدية والمعمل، بما ينسجم مع المصلحة العامة لمدينة صيدا، ويوفر أُطرًا قانونية متجددة تواكب التحول البيئي المنشود.
ليس في ذلك مجرّد إجراء تقني، بل توجّه يؤسس لعلاقة ندّية بين القطاع العام والقطاع المشغّل، ويُخرج العقود البيئية من دائرة الجمود نحو صياغات أكثر ديناميكية وتوازنًا.
نحو نموذج عربي للتنمية البيئية
تنبثق من هذا اللقاء جملة من الدلالات الرمزية والسياسية. فأن تُبادر بلدية محلية إلى استضافة خبير بيئي عربي بهذا الوزن، وأن يجري النقاش ضمن بيئة مؤسسية جامعة، فذلك يعكس توق صيدا لتعزيز موقعها كمدينة منفتحة على الحوارات الكبرى، وصاحبة تجربة قابلة للتصدير في مضمار الإدارة البيئية.
في زمن تتراجع فيه مظاهر التنسيق العربي في ميادين عدة، تُعيد صيدا بهذا النموذج التذكير بأهمية العمل المشترك في القضايا البيئية والمجتمعية، وبأن التكامل العربي لا يزال ممكنًا وفاعلًا إذا ما بُني على أسس عملية لا شعارات عابرة.
إرادة للإصلاح لا مجرد نوايا
يتبيّن لنا أن زيارة د. مصطفى كامل شكّلت لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين بلدية صيدا والملف البيئي. إنها لحظة اختبار للإرادة السياسية المحلية، ولرغبة واقعية في الإصلاح، ولقدرة المدينة على أن تتحول من ساحة أزمة، إلى حاضنة حلول.
إذا استمرت هذه المقاربة العقلانية، المبنية على الحوار، والمراجعة، والشفافية، فإن صيدا على موعد مع تحوّل نوعي يعيد رسم صورتها كمدينة سبّاقة في إدارة شؤونها الحيوية، بإرادةٍ محليةٍ صادقة، ورؤية إقليميةٍ مستنيرة.
إعداد: إبراهيم الخطيب