الحاج زهير شفيق حنقير - شيخ كار صناعة البوظة والسحلب في صيدا
الحاج زهير شفيق حنقير يستذكر كار صناعة البوظة والسحلب في صيدا:
بمناسبة شهر رمضان المبارك، أعاده الله على الجميع بالخير واليُمن والبركات، نتوجّه إلى المواطن الصيداوي، وبالأخصّ المواطن اللبناني، لنتذكّر كيف كانت صيدا قديمًا في هذا الشهر الفضيل.
أنا من مواليد الخمسينيات، وكان والدي قد جاء حديثًا من فلسطين. كان يملك مقهًى بجوار المحل الموجود حاليًا في ساحة البوّابة الفوقا داخل صيدا القديمة، وكان يُدعى "مقهى خبّيني". و"خبّيني" تعني أن من كان مطلوبًا للدولة بسبب خلاف ما، كان يأتي ويطلب الاختباء هناك.
وجد والدي أن من الأفضل فتح محل جديد خارج المقهى، فاشترى محلين متجاورين، عمل على تجهيزهما وتبليطهما وتحضيرهما للعمل. كان والدي قد تعلّم في تركيا تحضير الرزّ بحليب والمهلّبية والبوظة العربية، حيث لم تكن الكهرباء متوفرة آنذاك، وكان تحضير السحلب مرتبطًا بموسم الشتاء.
عندما حلّ أول موسم شتاء، بدأ والدي بصناعة السحلب، وكان طعمه شهيًا جدًا. كانت الحياة في ذلك الوقت بسيطة وخيّرة، فكان الناس يأتون لشراء السحلب في أوانٍ فخّارية تُسمّى "الإدري". كان الزبون يقول: "يا أبا زهير، عبّي لي إدريّة السحلب بليرة"، فيملؤها له مع القرفة والكعك، وكانت الأمور تسير والحمد لله، حتى اشتهر المحل.
ومع بداية موسم الصيف، توقف تحضير السحلب، وبدأ العمل في صناعة البوظة العربية. لم تكن هناك كهرباء، فكان والدي يصنع صندوقًا خشبيًا بداخله جرن من النحاس، يوضع فيه الثلج مع الملح ليحافظ على البرودة. أول مرة بدأ فيها بصناعة البوظة، كنت في الثامنة من عمري، فأحضر لي صندوقًا خشبيًا لأقف عليه، وأعطاني مدقّة خشبية كبيرة أشبه بمدقة الثوم، وطلب مني أن أدقّ البوظة طوال اليوم.
كان الناس يأتون ويشاهدونني أعمل، حتى قالوا لوالدي: "يا أبا زهير، ابنك هذا ملك البوظة وملك السحلب!" وكان هناك مصوّر يُدعى حسين المدني، يأتي ويصوّرني وأنا أعمل، ثم يعلّق صوري في المحل، فيتساءل الناس: "من هذا؟"، فيجيبهم والدي بفخر: "هذا ابني زهير، الذي يدقّ البوظة!"
في شهر رمضان، كان الجميع يتهافت على كاسات المهلّبية، وكان الناس يرسلون الطلبات سلفًا. مثلًا، كان أحدهم يقول: "يا أبا زهير، جهّز لي خمس كاسات مهلبية"، فيأتي بعد العصر ليأخذها. وكانت المهلبية تُحضَّر من أرز ناعم مطحون يُمزج بحليب البقر، ما يجعلها مغذّية جدًا، فيتناولها الصائمون وقت السحور، فيشعرون بالشبع طوال اليوم.
كنا كأطفال ننتظر بفارغ الصبر مدفع رمضان، فنصعد لنشاهده، حيث كان يتم تعبئته بالبارود والخردق، وعند سماع التكبير "الله أكبر"، كان الفتيل يُشعل، فتنطلق القذيفة، ويعمّ الفرح، فننشد جميعًا:
"رمضان جانا، أهلاً رمضان، قولوا معانا، أهلاً رمضان!"
كل عام وأنتم بخير، أعاده الله على الجميع بالخير واليُمن والبركات، ونسأل الله أن يكون شهر خير على جميع اللبنانيين والمسلمين في كل مكان.