أحمد نصار: خطر العولمة في الهيمنة
المصدر/ د.الشيخ أحمد نصار؛ مفتي صيدا السابق:
إن الرفض المطلق للعولمة لن يُمكّننا من تجنب مخاطرها، كما أن القبول المطلق لها لن يمكننا من الاستفادة التامة منها، إذ لا يمكن على سبيل المثال محاربة شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها، كما لا يمكن الامتناع عن التعامل مع منظمة التجارة العالمية رغم سلبياتها المتعددة، وغير ذلك من المؤسسات العالمية التى لا يمكن الانغلاق دونها.
ونحن إذ نفتقد للبديل الذي نريد أن نثبت عليه، لسنا في معركة ضد التطور المصاحب للتحول نحو العولمة، ولكننا في مواجهة دائمة للهيمنة بكل صورها. فأكبر ما يهدد ثقافات الشعوب فى عصر العولمة، هو هيمنة ثقافة الدول المتفوقة على سواها اقتصادياً وتقنياً، وما توفر لها من إنتاج ضخم في شتى النواحي الحياتية الإنسانية، وما حققته لها وسائل الاتصال العصرية من رواج فى كافة أرجاء الأرض، وما تحمله من قيم مادية ونزعة فردية وانحراف عن الفطرة وتوجّه استهلاكى مفرط، الأمر الذي يجعلنا فى حاجة ضرورية إلى الفكر المقاوم لمحاولات الاختراق لهويتنا وخصوصيتنا الثقافية، والمنهج الممانع والرافض للانحلال والتلاشى تحت تأثير موجات الغزو الذى يمارس علينا من قوى الهيمنة العالمية.
إن اختلاف البشر وتعدد ثقافاتهم أمرٌ طبيعي وآية من آيات الله تعالى، ولذا قال سبحانه: ]ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة[، وقال تعالى:]ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين[، وهذا ما يجعل ثقافتنا العربية والإسلامية فى عصر العولمة أمام تحديات جسام فى مقدمتها أن تقوى على النهوض من ذاتها وتنمو نمواً داخلياً بجهد أبنائها، وذلك بالعودة إلى مخزونها الثري فتحييه وتجدده وتطوره، هذه من جهة، ومن جهة أخرى بالتفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى تجنباً للانغلاق والتحجّر أو التبعيّة والابتداع والذوبان.
إن علماء الأمة وعقلائها الأحرار يرفضون مقولة الثقافة الكونيّة أو الثقافة العالميّة أو ثقافة العولمة أو ثقافة السلام العالمي، لأن الثقافة فى جوهرها تعبير عن الهوية وتجسيد لخصوصية الأرض والتاريخ والتراث واللغة والفكر والمعتقد. وينبغي علينا أن ندرك أن قوى الشر الصهيوني والهيمنة العالمية تستغل العولمة كوسيلة لبث سمومها وفرض هوية ممسوخة في شتى المجالات، مستهدفة هويتنا الإسلامية ووجودنا كما ومعاني الرحمة والقيم الإنسانية، فعلينا أن نعتبر العولمة فرصة ووسيلة لابد من اغتنامها بما يعرّف بهويتنا الإسلامية، وقيمنا النبيلة الخالدة وإبداعنا الأدبي والفني والعلمي الراقي، ودورنا الرائد فى الحضارة الإنسانية، وأننا مصدر غنى للعالم في تحقيق العدالة والخير للإنسانية. وعلينا مواجهة خطر العولمة من منطلق عقائدي مبني على توحيد الله سبحانه فكراً وعملاً، ظاهراً وباطناً، دعوة وممارسة، شريعةً وخلقاً.
فلا تعزز الهوية الإسلامية ولا يتحقق احترام المخالف المشارك في الوطن والمصير، من خلال التنازل أو التهاون عن مبدأ اعتقادي؛ كابتداع عيد البشارة، والدعاء والممارسات التعبدية المشتركة والتي تخرج المسلم من إسلامه كما تخرج الكتابي من معتقده. ولا يكون التجديد في الخطاب الإسلامي ليتناسب مع العولمة من خلال اعتبار أهل الأديان المختلفة مؤمنين بالله مع غض النظر عن صفة الإله وكينونته عند كل منهم، فلا يجيزون نسبة الكفر لأحدهم باعتباره اختلاف طبيعي وحرية اختيار، لأننا نلغي بذلك أنفسنا كما غيرنا، ونقرر دينا جديداً مبني على مبدأ وحدة الأديان كما يدعو بذلك البرلمان العالمي للأديان. ولا يحارب الإرهاب والتطرف الديني المفتعل من خلال الخضوع لخطر العولمة بفرض قوانين أحوال شخصية غير دينية، واعتماد منهجية تربوية مبنية على لا دين من منطلق أن الدين ممارسة شخصية، واعتبار المسجد الأقصى بيت الله لكل المؤمنين به!!...
إن المعتز بهويته الإسلامية القرآنية؛ هو الذي يكسب المجتمع عزة وحصانة معنوية ومادية عالية، وهو الذي يحقق الأمن والأمان السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، وهو الذي يبرز إيجابيات الإسلام وعالميته، وعدالته، وحضارته، وثقافته، وتميزه وتمايزه، وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا منه الحكم والعبر، وهو الذي يدرك حقيقة العيش المشترك ومعاني احترام الآخر دون ذوبان. وأما الذليل هو المنهزم أمام العولمة فكراً واعتقادا وسلوكا، يتشرب بانهزامه النفسي كل ما يأتيه من المنتصر المهيمن، وحين يمسك بزمام سلطة لا يرقب في مجتمعه بتعدديته ولا في المؤمنين من بني جلدته إلاً ولا ذمّة، كما قال تعالى عنهم وعن أسيادهم وكفى بالله شاهداً وشهيداً: ]كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ* اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ[.