Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفلسطينية نيروز قرموط تتحدى الحصار بحكايا النساء

متوالية قصصية تدعو إلى التحرر واكتشاف الذات وتقرير المصير

لوحة للرسامة الفلسطينية مايسا يوسف (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

متوالية قصصية تدعو إلى التحرر واكتشاف الذات وتقرير المصير

تقترح الكاتبة الفلسطينية نيروز قرموط في كتابها الجديد "عبور" (دار "ميريت"، القاهرة) قاموساً عامراً بالدلالات التي ينطوي عليها هذا "العبور" المادي والمعنوي، الذي تبشر به. وفي وقت تبدو فيه الاحتمالات كلها منغلقة ومستعصية في مجتمع غزة، ما عدا احتمال الجرح الفلسطيني النازف دائماً، فإنها في متواليتها القصصية المتدفقة (250 صفحة) تبعث رسائل التفتح والتحقق والتمرد والانفلات، وإدراك التحرر الفردي والجماعي والوطني، على كافة المستويات.

من خلال ثلاث نوفيلات، هي "كيف تستعيد النساء أجسادهن بعد الحرب"، و"النرد"، و"ألفريدو روج"، تنسف نيروز قرموط، الحاصلة على جائزة القلم البريطاني "English Pen"، كل أشكال الحصار في قطاع غزة، الخاضع لسياسة الأمر الواقع، التي لا يتوانى الاحتلال الإسرائيلي عن فرضها بواسطة القوة وتنفيذ الحلول الأحادية.

وتتخلص نيروز، ابنة مخيم اليرموك للاجئين في سوريا عام 1984، من ميراث الحروب والصراعات والدمار والشتات المراد له أن يكون محنة فلسطينية ثابتة لا يمكن تجاوزها أبداً، لتصوغ ملحمتها من نسيج عضوي مغاير، مشحون بالإرادة المتنامية والقدرة على لملمة الحياة من ركام الرماد "كانت الحرب من أجل بيع الأسلحة، وكان الرقص من أجل تعليب الحزن في فرح جديد".

عابرون وعابرات

أكثر من "عبور" تدعيه صاحبة "عباءة البحر وقصص الجديلة"، التي عادت مع أسرتها إلى قطاع غزة عام 1994 إثر اتفاقات أوسلو، في متواليتها القصصية التي تبدو بحد ذاتها "عابرة" للأجناس الأدبية، وذلك بمزجها بين السرد الشفيف والتوثيق التاريخي واللغة الشعرية والاستعارية والحالات الصوفية، في تركيبة واقعية وتخييلية ورمزية وسوريالية لا تتيح نفسها للقارئ بسهولة ومجانية، خصوصاً مع تقنيات التتبع السريع للمشاهد وللشخوص، والتنقل الفجائي بين الأمكنة، واللعب المتواصل بالأزمنة غير المنتظمة في تراتبيتها.

وفي تلك المعالجة التعبيرية والفنية المتطورة وغير النسقية انسجام واضح مع مضمون المتتالية الجريء، وأفكارها الرامية إلى خلخلة الوضعيات السائدة، وبث القيم الثورية، والإبداعية أيضاً، في جسد القضية الفلسطينية وروحها، وفي ضمير الشعب وأبجدياته وآلياته النضالية، بما يحقق التطلعات المستقبلية في شأن بلورة الهوية وتقرير المصير.

تتوالد وجوه "العبور"، وتشتبك مع بعضها بعضاً، على امتداد المتوالية القصصية بنوفيلاتها الثلاث. فمن نساء يعبرن الخوف والظلم ليقدرن على امتلاك أجسادهن والتخلص من قيودهن، إلى رجال يعبرون إحباطاتهم النفسية وانكساراتهم الداخلية التي تمنعهم من مواجهة الضغوط والأعداء في الوقت نفسه. ومن اجتياز المعابر صوب مصر إلى صحراء سيناء ونهر النيل للتزود بالدعم المادي والشحذ المعنوي والإمساك بالخوارق الفانتازية والأسطورية، إلى العبور الفلسطيني الكامل من الاحتلال بالمعنى المباشر، والعبور الإنساني العام من مأساة الوجود في عالم يدعي الحضارية والمدنية، بينما يفتقر حتى الإنسانية.

علاقات وأحداث صغيرة

وتحفل المتوالية القصصية بسجل كامل للوقائع الكبرى في غزة خلال القرن الـ21، وعلى رأسها حرب 2008-2009 أو عملية "الرصاص المصبوب" التي شنها الجيش الإسرائيلي على القطاع، وحرب 2014 أو عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية التي ردت عليها المقاومة الفلسطينية بمعركة "العصف المأكول" وعملية "البنيان المرصوص"، وغيرها من الحروب، إلى جانب موجات الصراعات بين الفصائل الفلسطينية، خصوصاً بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006. كما تستدعي المتوالية جائحة كورونا العالمية عام 2020، وتداعياتها وتأثيراتها السلبية على طبيعة الحياة، وما فرضته على البشرية من عزلة، ولكن الانشغال الأساس للعمل الأدبي يظل دائماً على طول الخط منصرفاً إلى قماشة الشخوص والمواقف والعلاقات والأحداث الفنية القصصية المصنوعة، والنبش عن النماذج الفردية والتفاصيل الاجتماعية والخلفيات الإنسانية التي تنقل صورة حية مبسطة للمجتمع الفلسطيني من الداخل، وفق عدسة التشريح الأدبي الحساسة المكبرة، وليس بالمعيار المعلوماتي الجاف والجارف الذي يستخدمه المؤرخون في تعميماتهم.

في نوفيلا "كيف تستعيد النساء أجسادهن بعد الحرب"، تتكئ الساردة على حكايا النساء خصوصاً كتمثيل للفئات المهمشة في خضم الحروب والصراعات والأزمات. وتخلص إلى أن "الحرب تتغذى على أجساد النساء، تلتهم أجزاءهن الراقصة". وهنا لا يحدث الاستسلام، فالانحياز يبقى إلى أطياف أولئك النساء الشاردات، اللاتي "تروي أجسادهن حكاية الحرية على رمال الشاطئ، وتسبح ظلالهن وظلال عائلاتهن في مياهه".

ويأتي عثور المرأة على جسدها وتحكمها الكامل فيه بممارسة الرياضة أو الريجيم الغذائي لفقدان الوزن أو أداء الحركات الراقصة على أنغام الأمل والألم، ليعكس استرداد المواطن أرضه الخاصة، وتمكنه من حقوقه الأساسية، وتخلصه من القهر والحرمان، وتحرره من حواجز الاستغلال والخضوع للسيطرة الخارجية والإدارة الاستعمارية الاستعلائية العنصرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا، يصير تمكين المرأة من مقاييس أنوثتها ومحددات جمالها ومقومات انطلاقها وضمانات مخاضها وخصوبتها وابتساماتها، وأيضاً تحريرها من أغلال العادات والتقاليد الموروثة والفهم الخاطئ للدين، بمثابة بناء خلايا خضراء للإنسان من جديد، جسداً وروحاً وقلباً ورأساً، ودفعه إلى خوض الحياة بكل متناقضاتها وتحدياتها بعنفوان وجدية واستقلالية وقدرة على النهوض والصمود، ورفض الانقياد والتبعية والنقصان والقبح والتشوه "تتمتع بقامة رصينة، مشدودة الساقين، محبة للرقص، تجيده بثبات فرس تعلم كيف تقف على ساقيها".

القدرة على الاستمرار

وتتمدد فكرة قدرة الإنسان الفلسطيني، ذكراً كان أو امرأة، على الاستمرار والفعل الإيجابي في المتوالية القصصية كلها، المنبنية على مبادئ العبور والتخطي والتحول والتطور في وسائل المقاومة، من أجل أن تعود الحياة كاملة "يا الله، أريد أن أعيش، لكن لا تأخذ أحداً من عائلتي أو عصافيري".

ففي نوفيلا "ألفريدو روج"، يستعرض السارد سيرة فتى من أبناء جيل انتفاضة الحجارة عام 1987، حيث كان في الـ14 من عمره، إذ جرى اعتقاله شأنه شأنه الآلاف من رفقائه الصغار، ممن اعتادوا الهرب من المدارس، ليقذفوا جنود الدورية الإسرائيلية بالحجارة. وتتقصى النوفيلا محطات حياته عبر مراحله السنية المتتالية، ملقية الضوء على التركيبة السكانية والتراكم الاجتماعي لشعب غزة البطولي وتحولات المدينة في فترات الحروب والانتفاضات والاضطرابات والصراعات، وفي هدنات الهدوء والسلام التي لا تطول.

وفي نوفيلا "النرد"، ومن خلال الراوي الغامض غير المألوف، تتأسطر السردية الفلسطينية، لتصير رحلة شاعرية فانتازية بمصاحبة خيوط الشمس الناعمة، من معابر غزة إلى صحراء سيناء ورمالها المتعطشة في مصر، وأيضاً إلى مياه النيل المليئة بالأسرار والسحر القديم، بحثاً عن يقظة استثنائية بمعنى الخلود. وتتعانق سوريالية اللحظة المجهولة مع لعبة النرد العجائبية التي يمارسها النازحون في طابور المعبر، فللنرد ستة أوجه، والاختيار الأخير هو اختيار الحياة، الذي يؤدي إلى التقدم إلى الأمام "الوجه السادس قدم سمراء تأخذك إلى نهر النيل".

إنها احتمالات الحياة المتنوعة الواسعة، التي صاغتها نيروز قرموط في متواليتها القصصية كمغامرات مثيرة غير نهائية، يمكنها أن تتحرك في اتجاهات عدة، مثلما أرادت للكتابة نفسها أن تصير رقصاً دائرياً ضرورياً وممتعاً، لا يتوقف عن مناهضة الموات، وألا تكون نسخة قديمة على رف متجر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة