ديفيد دامروش يطوف العالم عبر ثمانين كتاباً

بينها «ألف ليلة وليلة»، و«ليالي ألف ليلة» لمحفوظ، و«سيدات القمر» لجوخة الحارثي

ديفيد دامروش يطوف العالم عبر ثمانين كتاباً
TT

ديفيد دامروش يطوف العالم عبر ثمانين كتاباً

ديفيد دامروش يطوف العالم عبر ثمانين كتاباً

كتاب «حول العالم في ثمانين كتاباً» من تأليف ديفيد دامروش

David Darmosh

أستاذ ورئيس قسم الأدب المقارن بجامعة هارفارد الأميركية. والكتاب صادر في سلسلة بليكان عام 2021، وهو رحلة بين الأمكنة والأزمنة والشعوب، وعنوانه يذكّر بعنوان رواية الأديب الفرنسي جول فيرن «حول العالم في ثمانين يوماً» (1873).

يتألف الكتاب من مقدمة عنوانها «الرحلة إلى الخارج» (وهو عنوان أول رواية للروائية الإنجليزية فرجينيا ولف)، ومن فصول عن مدن وبلدان العالم كما تتجلى في روايات وأقاصيص وأشعار بأقلام كتّاب مختلفي الجنسيات، وهكذا فإننا نرى مثلاً لندن بعيني تشارلز ديكنز، وباريس بعيني مارسيل بروست، وإيطاليا بعيني بوكاشيو، ونيجيريا بعيني تشنوا أنشبي، وشيراز بعيني حافظ الشيرازي، والهند بعيني طاغور، واليابان بعيني يوكو ميشيما، ونيويورك بعيني سول بيلو، وهكذا.

وقد اخترت أن أتوقف هنا عند ثلاثة فصول ألصق بنا، هي الفصول الخاصة بالقاهرة وبغداد ومسقط، حيث نلتقي بكتاب «ألف ليلة وليلة»، ورواية نجيب محفوظ «ليالي ألف ليلة»، ورواية جوخة الحارثي «سيدات القمر».

وقبل ذلك، نورد قول المؤلف في مقدمته عن تجربته في القراءة، لقد قرأ في سن الخامسة عشرة رواية «حياة السيد ترسترام شاندي وآراؤه» لروائي آيرلندي من القرن الثامن عشر هو لورنس سترن. وقادته هذه الرواية إلى قراءة «جار جانتوا وبانتا جرول» للكاتب الفرنسي رابليه، ورواية «دون كيشوت» للكاتب الإسباني ثربانتس، ثم انفتحت أمامه أبواب القراءة بلا نهاية.

كتاب «ألف ليلة وليلة»

يجمع كتاب «ألف ليلة وليلة» حكايات سومرية وآكادية ومصرية وإغريقية وتركية وفارسية. وكان أثره في الأدب العالمي شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، أثراً عميقاً ومتصلاً فصّل القول فيه ماهر البطوطي في كتابه «الرواية الأم: ألف ليلة وليلة والآداب العالمية» (مكتبة الآداب، القاهرة 2005)، والباحث والمترجم الهولندي رتشارد فان أوين في كتابه (باللغة الإنجليزية) «ألف ليلة وليلة والقصة في القرن العشرين. قراءات تناصية» (دار بريل للنشر، لايدن 2018).

يقول دامروش إن الكتاب وصلنا في مخطوطات مختلفة، ومن ثم اختلفت تفسيرات الدارسين له. إن أصل الحكايات من فارس (يفترض في شهريار أنه ملك ساساني)، ولكن أغلب الأحداث تدور بين دمشق والقاهرة. وعلى إمعانها في الخيال فإنها تضرب بجذورها في الواقع. وقد وضع عدداً من هذه الحكايات في القاهرة ودمشق في أثناء فترة الحكم العثماني. وهكذا فإنه في قصة حمال بغداد والصبايا الثلاث (في الليلة التاسعة) نجد أن ما يقدم في المأدبة يضم تفاحاً شامياً وسفرجلاً عثمانياً وخوخاً عمانياً وياسميناً حلبياً وخياراً نيلياً وليموناً مصرياً، وذلك قبل أن يطرق على باب الحمال والصبايا الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر وسيّافه مسرور، متنكرين في زي تجار. وكل أصناف الطعام المذكورة هنا كان يمكن شراؤها في أسواق القاهرة آنذاك.

«ليالي ألف ليلة» (1982)

هذه رواية من تأليف نجيب محفوظ (1911 - 2006) الذي قال، في خطاب تلقيه جائزة «نوبل» للأدب عام 1988، إن الفائز الحقيقي بالجائزة هو اللغة العربية. وذكر أنه ابن حضارتين: الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية. وقد أضاف إليهما فيما بعد نهله من حياض الثقافة الغربية.

ويقول الدكتور رشيد العناني في كتابه (باللغة الإنجليزية) «نجيب محفوظ: حياته وعصره» (مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة 2007) إن رواية محفوظ هذه - إلى جانب رواية «الحرافيش» - كانت آخر عمل كبير لمؤلفها، وهي تمثله في قمة نضجه. إنه يختار ثلاث عشرة حكاية، لا رابطة بينها (كما أنه لا رابطة بينها في الأصل) ويحورها باستخدام تقنيات حداثية من نوع الرمزية والموتيفات المتواترة وتيار الوعي والواقعية السحرية. وتجسد هذه الصياغة الجديدة عدداً من اهتمامات محفوظ التقليدية: الشرور الاجتماعية، والزمن، وعلاقة الإنسان بالمطلق. وقصة شهرزاد وشهريار هي الإطار الذي ينتظم هذا كله.

أما دامروش فيقول إن محفوظ يمزج هنا بين فانتازيا قروسطية وواقع معاصر على نحو ما يفعل الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في كتابه «مدن غير مرئية». إن أحداث الرواية تبدأ في الليلة الثانية بعد الألف، والوزير دندان متجه إلى قصر الملك شهريار قلقاً على مصير ابنته شهرزاد وعلى مآل المملكة. وحين يهنئها على نجاتها من المصير الدامي يجدها ملأى بالمرارة تقول: «ضحيت بنفسي لأوقف شلال الدم، وتنعى كل العذارى اللواتي قتلهن شهريار».

وتضم الرواية خليطاً سيريالياً من الشخصيات تلتقي في مقهى الأمراء: إبراهيم العطار، وعجر الحلاق وابنه علاء الدين، ورجب الحمال وزميله سندباد، والرواية تأمل فيما يقدر فن القص على تحقيقه وما لا يقدر عليه.

«سيدات القمر» (2010)

رواية من عمان من تأليف جوخة الحارثي (ولدت في 1978)، وهي روائية وأستاذة للأدب العربي بجامعة السلطان قابوس في مسقط. وقد ترجمت الرواية إلى اللغة الإنجليزية وفازت مؤلفتها (مع المترجمة مارلين بوث) بجائزة «مان بوكر» لعام 2019.

يقول دامروش إن «سيدات القمر» مروية من منظورات سردية متعددة كما في بعض أعمال الروائي التركي أورهان باموق. إنها تتألف من 58 فصلاً قصيراً، وتدور حول ثلاث شقيقات وعائلاتهن. وهؤلاء النساء، كالصبايا في حكاية حمال بغداد، قويات الشخصية ولكن أحلامهن تظل في نطاق الفانتازيا، وقلما تخرج إلى حيز الواقع. والإطار الذي تتحرك فيه الحارثي - كالأطر التي يتحرك فيها محفوظ وباموق - محلي وعالمي معاً. إن شخصياتها تنشد أبياتاً لأمرئ القيس ومحمود درويش، ولكن أغلب المحيطين بها لم يسمعوا بهذين الشاعرين. وحين يقع الأب في حب بدوية ينشد أبياتاً للمتنبي عن ظباء الفلاة.

بعد وباء «كورونا» يتعين علينا أن نتعهد حديقتنا بالرعاية، وأن نطوف بالعالم من غرفتنا

الكتاب الواحد والثمانون

ويتساءل دامروش في ختام كتابه: «إلى أين نمضي من هنا؟» ويجيب: «إننا نستطيع أن نقرأ المزيد من أعمال الكتّاب الذين اجتذبونا». وهكذا ننتقل من رواية فولتير «كنديد» (لها ترجمة عربية للمترجم الفلسطيني عادل زعيتر) إلى «الأعمال الكاملة» لفولتير في 62 مجلداً نشرت في الفترة 1775 - 1790 وتشمل شعراً هجائياً ساخراً ودراسة تاريخية لعصر الملك لويس الرابع عشر ومراسلات مع الإمبراطورة الروسية كاثرين ومسرحيات.

ومهما يكن من أمر ما نختاره، فإننا لا يمكن أن نقنع بثمانين كتاباً. إن جول فيرن (الذي تحولت روايته «حول العالم في ثمانين يوماً» إلى فيلم سينمائي في 1956) لم يقنع بأن يرسل أبطاله حول الكرة الأرضية في ثمانين يوماً، وإنما أرسلهم كذلك إلى سطح القمر أو غاص بهم عشرين ألف فرسخاً تحت الماء. إن قائمة وجهات الأدب بلا نهاية. وبعد وباء «كوفيد» يتعين علينا - بتعبير فولتير في ختام رواية «كنديد» - أن نتعهد حديقتنا بالرعاية، وأن نطوف بالعالم من غرفتنا.

حول العالم في ثمانين كتاباً

Around the World in 80 Books

المؤلف: ديفيد دارموش

David Darmosh


مقالات ذات صلة

«نظريّةُ كل واحد»... الديناميات الأساسية للسلوك البشري

كتب «نظريّةُ كل واحد»... الديناميات الأساسية للسلوك البشري

«نظريّةُ كل واحد»... الديناميات الأساسية للسلوك البشري

في الوقت الذي يؤكّد فيه المؤلف على الأهمية المركزية لمفهوم الطاقة فإنّه لا يتغافل عن التصريح بأنّ كتابه ليس كتاباً مخصوصاً عن الطاقة بذاتها.

لطفية الدليمي (بغداد)
كتب ليدي إيفلين كوبولد

«من لندن إلى مكة»... أول رحلة حج لامرأة بريطانية

تفاصيل ومشاعر فياضة بالروحانية تصف بها الكاتبة البريطانية رحلتها للحج التي أصرت على خوضها بعد أن أشهرت إسلامها في أربعينات القرن الماضي لتكون بذاك أول امرأة أوروبية تقدم على هذه الخطوة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «درب زبيدة»... أقدم طريق للحج بين العراق والسعودية

«درب زبيدة»... أقدم طريق للحج بين العراق والسعودية

يقدم هذا الكتاب، تعريفاً لطريق الحج البري القديم بين العراق والسعودية وكيفية اكتشافه وما لحقه من إهمال ونسيان، ويوضح جهود الحكومتين العراقية والسعودية في ثلاثينات القرن العشرين بالسعي إلى إحيائه وتجديد محطاته لأهميته التراثية.

علاء المفرجي (بغداد)
كتب «أطروحات في قلب رؤية 2030»

«أطروحات في قلب رؤية 2030»

يُوثِّق الكتاب أثر رؤية السعودية 2030 في تجاوز أكثر من 15 تحدياً تنموياً مرتبطة بقطاعات مختلفة في المجتمع، من بينها صحية وتأمينية ومالية كانت تواجهها قبل إطلاق رؤية 2030؛ وكيف تم تجاوزها بعد إطلاقها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون القراءة كقصة عاطفية

القراءة كقصة عاطفية

يروي بروست في هذا الكتاب عن محبته للقراءة وطقوسه التي تصاحبه في ذلك وكأنه يروي عن طفولته فيتذكر نفسه وهو الصبي الذي يقتنص ويتحيّن الفرص للاختلاء بكتاب جديد ليغنم هذه المتعة

منى أبو النصر (القاهرة)

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير
TT

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير

صدر حديثاً (2024) عن «مركز الملك فيصل للبحوث والدّراسات الإسلاميَّة»، كتاب «أخبار النِّساء» للأمير مجد الدولة أُسامة بن مُنِقذ الشَّيزريّ الكنانيّ (488 - 584هـ)، ضمن سلسة تحقيق التُّراث (52)، من مخطوطات المركز المحققة. عدت مخطوطة الكتاب نسخة فريدة منها بالعالم، مِن مواضيعه: كتاب الأُمهات، كتاب الزَّوجات، كتاب البنات، والأخوات، والجواري، كتاب مراثي النِّساء، كتاب أوصاف النِّساء، كتاب الخطبة والتَّزويج والتَّطليق، كتاب أحكام النِّساء. بلغ عدد صفحات المطبوع (700) صفحة متضمنة الفهارس المفصلة.

كذلك كان «أخبار النِّساء» فريداً في منهجه ومحتوياته، جمع بين التاريخ، والأدب، والسِّير لأشهر النِّساء، جاء زاخراً بالمنثور والمنظوم، والأحكام الفقهيّة؛ فقد صُنفت كتبٌ غير قليلة في أحوال النِّساء، رصدتها مقدمة التّحقيق، لكن ليس لأيٍّ منها الشُّموليّة التي امتاز بها كتاب ابن مُنقذ، وهو أحد أبرز أمراء الحرب مع الإفرنج وما عُرف بالحروب الصّليبيّة، وكان كتابه «الاعتبار» سيرة ذاتية لنفسه، وربّما عُدَّ ابن منقذ أولَ من أهتم بكتابة سيرته بقلمه، وبعده ابن خلدون (ت 808هـ)، وكتابه «التّعريف».

التقى السُّلطان صلاح الدِّين الأيوبيّ (ت 589هـ)، متأخراً، فلم يتمكن من مرافقته في الحروب التي خاضها الأيوبيّ، وذلك لكبر سنه، وقد تجاوز الثمانين، حين التقاه، وتُوفي مناهزاً السادسة والتسعين. كان صلاح الدِّين شغوفاً بشعر ابن منقذ، فضَّل ديوانه على دواوين بقية شعراء تلك الفترة، جمعه له نجله مُرْهف بن أُسامة بن منقذ، وكانت له حظوة عنده، بعد وفاة والده (ابن شامة، كتاب الرَّوضتين في أخبار الدَّولتين النُّوريّة والصّلاحيَّة). كان والد وإخوة أسامة شعراء وأدباء، وكذلك ولده أبو الفوارس مُرْهف (ت 613هـ) كان شاعراً وكاتباً وجامعاً للكتب، وحصل أن اشترى منه ياقوت الحموي (ت 622هـ) مجموعة كتب (الحمويّ، معجم الأدباء). لأبي الفوارس شرح لديوان المتنبي، قُدمت مخطوطته أطروحة في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنورة ، وهي من محفوظات مكتبة الملك فهد الوطنيّة بالرياض.

على الرّغم مِن انشغاله في الحروب، لكن ابن منقذ كان غزير التأليف، فمن غير «أخبار النّساء»، وكتاب «الاعتبار»، له عشرات الكتب مِن المنشورات والمفقودات، و«أخبار النساء» كان مفقوداً، حتّى عُثر عليه بين أكوام مِن الأوراق المخطوطة. كان للمؤرخ تقي الدّين المقريزي (ت 845هـ) فضله في جمع شتات مصنفات ابن منقذ؛ في قائمة ضمنها كتابه «المقتفى الكبير»، شملت أسماء كتبه وعناوين مواضيعها، ما وصَلَنا منها، وما ظلّ مفقوداً، وبينها «أخبار النّساء»، وما ذكره المقريزي عن محتويات الكتاب، جاء مطابقاً لما ورد في المخطوط.

لكنّ باباً مِن أبواب الكتاب، والخاص بالجواري، كان ضائعاً، فالمخطوط فُقدت منه أوراق غير قليلة، من بدايته ونهايته، غير أنَّ جلال الدّين السِّيوطيّ (ت 911هـ) اقتبسه في كتابه «المستطرف مِن أخبار الجواريّ»، ووثّق ذلك بالقول: «قال أُسامة بن مرشد في (أخبار النِّساء)». فمِن غير الوارد أنْ يُصنف ابن منقذ كتاباً في النّساء، وبهذه الشّمولية، ويغفل أخبار الجواريّ، بينما الكتب التي اقتبس منها كانت ملأى بأخبارهنَّ. يمكن إضافة ذلك إلى ما ذكرناه في مقال سابق، على صفحات «الشّرق الأوسط» «خزانة التُّراث.. كُتب تنقذ كُتباً مِن الضِّياع».

إضافة إلى شهرة أُسامة بن منقذ، التي سارت بها البغال الشُّهب مثلما يُقال؛ إلا أنّ اختياره الكتابة في «أخبار النّساء» يلفت النّظر، فقرون ولا تُعرف فهارس خزائن المخطوطات، إلا كتاب «أخبار النّساء» لأبي فرج عبد الرّحمن بن الجوزيّ (ت 597هـ)، الذي عاصر ابن منقذ، مع وجود الأول ببغداد، والأخير بين مصر والشّام، وقد نُسب كتاب ابن الجوزيّ هذا خطأً وتوهماً إلى الفقيه شمس الدين بن القيم الجوزيَّة (ت 751هـ)، بل هناك مَن ظنّه جزءاً من كتاب ابن منقذ، وقد حوى أوصاف النساء، وما يتعلق منهن بالزواج، والأشعار فيهنَّ، وما يتعلق بالغيرة وأخلاقهنَّ، هذا ما أشار إليه الباحث محمد عزيز شمس متوهماً، عندما قال: «هذا كتاب (أخبار النساء) لابن منقذ» (مجلة المجمع العلميّ العربي / العدد 2 السنة 1990). قال ذلك، ولم يطّلع على كتاب «أخبار النساء» لابن منقذ، وكان معروفاً بالاسم فقط، وإلا فالكتابان مختلفان، كتاب ابن الجوزي عنوانه الأصل «أحكام النساء»، واقتصرت موضوعاته على التعاليم والوصايا؛ من الحلال والحرام في معاملتهنَّ، وهو ما يناسب ابن الجوزي الفقيه، لا ابن منقذ الأديب والشَّاعر.

صُنفت، مثلما ذكرنا، مئات الكتب في أحوال النِّساء، وكان أغلبها بأقلام الرّجال، حتّى فترة متأخرة، بدأت النّساء الكتابة عن بنات جنسهنَّ، وربّما كان السّباقَ إلى التصنيف في النساء صاحبُ «كتاب بغداد» الشهير، أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور الكاتب (ت 280هـ)؛ «بلاغات النساء».

لكنَّ كلَّ ما صُنف وظهر مطبوعاً، في أحوال النِّساء، لا يجاري كتاب ابن المنقذ، الذي أرّخ للمرأة الأمّ والأخت والبنت والزوجة، وبالأسماء، وفي أزمان مختلفة، ومن غير ما نقله ابن منقذ مِن الكتب التي سبقته، أضاف حوادث عاشها. عندما يأتي على باب الأمهات، أو «كتاب الأمهات»، يتفرع إلى بركاتهنَّ، وخلاف الأبناء معهنَّ، وما تعرضنَّ إليه مِن مِحن، وأخبار الأبناء معهنَّ، وأخبار الآباء مع البنات، وهكذا كان منهجه مع كلّ فئة يتعرض لها، دون إغفال ما يتعلق بالجدات والخالات.

على ما يبدو، ظل الكتاب تتداوله الأيدي حتَّى القرن العاشر الهجري، فمثلما تقدَّم، اقتبس منه جلال الدّين السّيوطي، وهو من أعلام القرنين العاشر والحادي عشر، وبسبب عدم وصول المختصين بفهرسة المخطوطات إليه، فكان بيد أفراد لم يعرفوا قيمته، ولا موضوعه، لا تجد أثراً له عند كبار المفهرسين، مثل كارل بروكلمان (ت 1956) وكتابه «تاريخ الأدب العربيّ»، حتى وقع بيد المحقق والمهتم بالمخطوطات العربيَّة، الباكستاني الدكتور أحمد خان، الذي اشتراه مع مجموعة من الأوراق، وظل يستفسر عن هويته، فاكتشف أنه «أخبار النساء» لابن منقذ، وقد راسلتُ أحمد خان، وعرفتُ منه قصة وصول الكتاب إليه، ومنه إلى خزانة المخطوطات في «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات».

هذا، ولكلِّ كتاب قصته، في الضياع والعثور عليه، والأوهام والحقائق التي تدور حول هذا الكتاب أو ذلك، فلسنواتٍ كان المحقق مصطفى جواد يعتقد أن كتابَ «الحوادث» هو كتاب «الحوادث الجامعة والتجارب النّافعة في المائة السَّابعة» للمؤرخ ابن الفوطي (ت 723هـ)، وكان مؤلفه الأقرب لواقعة اجتياح بغداد مِن قبل المغول، لكن بعد المقابلة بين أسلوب الكتاب وكتب الفوطي اكتشف جواد نفسه، ما حققه ونشره (1932)، ليس لابن الفوطي، فأعيد نشره، بعد حين، بعنوان «كتاب الحوادث» بتوقيع: مؤلف مجهول.

غير أنَّ «أخبار النِّساء»، إضافة إلى اعتراف ابن منقذ به، وعدِّه ضمن قائمة كتبه، وما نُقل عنه مِن نصوص، فأسلوبه أسلوب بقية كتب ابن منقذ، ولولا الصّدفة أن يعرض أحد باعة الأوراق القديمة، على مالكه الأول، لربّما راح مستعملاً مِن قِبل البقالين، وكمْ مِن كتب تلفت في الدكاكين للجهل بها، فكان يُصيب الكتب، التي ضمّتها خزائن مكتبات الملوك والوزراء الأقدمين، ما يصيبهم مِن عوادي الزّمان.

حوى الكتاب مادة غزيرة، يستفيد منها المؤرخ الاجتماعي، ومؤرخ الأدب، وما يتعلق بالفقه ومعاملة النّساء، وتراه يرفع شأن النّساء، على خلاف كثير مِن المصنفين الذين تناولوا أحوالهنَّ، إلى جانب ما امتاز به الكتاب من أسلوب المصنف الرشيق في الكتابة، ومادته الثّرية.

لم نقف، بسبب ضياع الصفحات الأولى والأخيرة مِن الكتاب، على دافع ابن منقذ في تصنيف الكتاب، وهو الأديب والشّاعر والمحارب، وقد اعتاد، في مقدمات كتبه، ذِكر دافع التصنيف، فنجده مثلاً ذكر سبب تصنيفه كتابه «المنازل والدّيار»، قائلاً: «ما دعاني إلى جمع هذا الكتاب، ما نال بلادي وأوطاني مِن الخراب، فإن الزَّمان جرَّ عليها ذَيله، وصرف إلى تعفيتها حوله وحِيله، فأصبحت كأنْ لم تَغْنَ بالأمس، مُوحشة العرصات بعد الأُنس، قد دثر عمرانها، وهلك سُكانها، فعادت مغانيها رسوماً، والمسرّات بها حسراتٍ وهموماً، ولقد وقفتُ بعد ما أصابها مِن الزَّلازل ما أصابها، وهي أولُ أرض مسَّ جلدي تُرابها، فما عرفتُ داري، ولا دُور والدي وإخوتي...» (المنازل والدِّيار، دمشق 1965). هذا، وكان تصنيفه «أخبار النِّساء» قد سبق أهم كتبه، كـ«الاعتبار»، و«المنازل والدِّيار»، و«التّاريخ البدريّ»، ويقصد بدر الكبرى (2هـ)، وهذا واضح مِن تضمين هذه الكتب نصوصاً مِن «أخبار النّساء».

تضمّن كتاب «أخبار النّساء» لابن منقذ، بعد أخبار السيدات الأُول؛ مِن حواء، وأمّ النّبي موسى، والسيدة مريم، وزوجة النبي أيوب، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وبلقيس، والسيدة خديجة الكبرى، وغيرهنَّ، ثم فصل أحوال النِّساء، كأمهات وزوجات وبنات وأخوات، وصفات النساء، بذكر أوصاف الأسنان، والعيون، والأنوف، والحواجب، والأرداف، والمعاصم، والشَّعر، مع الأقوال والأشعار.

عموماً، يُعدّ الكتاب معجماً لكلّ ما يتعلق بالنساء، وقد يكون المفقود مِن أوراقه فيه الكثير، وكان فصل الجواري منه بحكم المفقود، لولا أنَّ السّيوطي حفظه في كتابه «المستطرف مِن أخبار الجواريّ»، على أمل إلحاقه في طبعة جديدة من الكتاب، وإتمام الضائع مِن المظانّ التي أخذ عنها ابن منقذ.