هل قتل الاقتصاد الرقمي الرأسمالية؟

SEATTLE, WA - FEBRUARY 26: A shopper exits Amazon Go Grocery on February 26, 2020 in Seattle, Washington. The store in Seattle's Capitol Hill neighborhood is Amazon's first large retail grocery location that uses the cashier-free model. David Ryder/Getty Images/AFP== FOR NEWSPAPERS, INTERNET, TELCOS & TELEVISION USE ONLY ==
متسوق يخرج من متجر أمازون في سياتل الأميركية (الفرنسية)

تخيّل المشهد التالي وهو أنك تدخل إلى مدينة مليئة بالأشخاص الذين يمارسون أعمالهم ويتاجرون بالأدوات والملابس والأحذية والكتب والأغاني والألعاب والأفلام. في البداية، يبدو كل شيء طبيعيا، ثم تبدأ في ملاحظة شيء غريب، وهو أن جميع المحلات التجارية في المدينة، بل كل مبنى وشقة وشارع، يملكها رجل يدعى جيف.

هذا الرجل قد لا يمتلك جميع المصانع التي تنتج كل تلك البضائع التي تباع في متاجره، لكنه يمتلك خوارزمية تأخذ حصة من كل عملية بيع، ويحق له أن يقرر ما يمكن بيعه وما لا يمكن بيعه.

يشبه هذا المشهد مشهدا آخر قديما هو مشهد "راعي بقر" يدخل إلى مدينة ليكتشف أن رجلا قويا قصير القامة هو المسؤول عن المقهى، ومتجر البقالة، ومكتب البريد، والسكك الحديدية، والبنك، وبالطبع، مسؤول الشرطة.

ما سبق ليس شيئا خياليا، بل هو ما يحدث بالضبط في شركات تكنولوجيا عابرة للقارات مثل أمازون وعلي بابا وغوغل وغيرها، فقد أصبحت هذه الشركات أشبه بإقطاعيات رقمية هائلة تملك كل شيء، وتعامل كل من هو داخلها كنوع من العبيد الرقميين الجدد المجبرين على التصرف بالضبط كما تريد هذه الشركات، وفق ما ذكر الكاتب يانيس فاروفاكيس في مقالة له بصحيفة الغارديان البريطانية مؤخرا.

غوغل من الشركات العملاقة المسيطرة على الحياة الرقمية (الفرنسية)

الاقتصاد الخوارزمي

في المشهد الرقمي السريع التقدم في ظل الثورة الصناعية الرابعة، برزت الخوارزميات باعتبارها حجر الزاوية في الاقتصاد الحديث، حيث أعادت تشكيل مختلف الصناعات والقطاعات الاقتصادية، والسيطرة على سلوك المستهلكين في جميع أنحاء العالم، إذ أحدثت هذه التعليمات البرمجية ثورة في العمليات التجارية، ومكّنت الشركات من تحسين أدائها وعملياتها من خلال مراقبة تفاعلات المستخدمين، واتخاذ قرارات تعتمد على البيانات الضخمة التي تعيد تحليلها بشكل مستمر.

ومع استمرار تطور هذه الخوارزميات أخذت تلعب دورا مهيمنا بشكل متزايد على التجارة والأسواق العالمية.

يمثل الاقتصاد الخوارزمي نقلة نوعية من نماذج الأعمال التقليدية إلى النماذج التي تركز على البيانات، حيث تسخر الشركات في مختلف الصناعات قوة الخوارزميات لأتمتة المهام، والتنبؤ بسلوك العملاء، واستخراج الرؤى، واستخلاص النتائج من مجموعات البيانات الضخمة التي يتم تغذيتها بها باستمرار.

وبهذه الطريقة اخترقت الخوارزميات كل القطاعات تقريبا، من تجارة التجزئة وأسواق المال والبورصة، وليس انتهاءً بالرعاية الصحية والطاقة والنقل، مما أدى إلى تعطيل الأساليب التقليدية وإحداث ثورة فوضوية في ديناميكيات السوق.

جيف بيزوس الرئيس التنفيذي لشركة أمازون (رويترز)

رأسمالية المراقبة

وفي عصر الخوارزميات، بدأ زمن ما يطلق عليها البروفيسور شوشانا زوبوف "رأسمالية المراقبة"، وهي مرحلة جديدة في التاريخ الاقتصادي حيث تقوم الشركات الخاصة بتتبع كل تحركاتك بهدف التنبؤ بسلوكك والتحكم فيه.

وفي ظل رأسمالية المراقبة، أنت لست العميل أو حتى المنتج: أنت المادة الخام، وذلك حسب ما يؤكد زوبوف في كتابه "عصر رأسمالية المراقبة"، وفي هذا العصر تسيطر الخوارزميات على كل شيء، وهي في ظل هذه السيطرة تضع جانبا واحدا من أهم مبادئ الرأسمالية، وهو مبدأ حرية التجارة ومنع الاحتكار.

إن الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي يعمل على ترسيخ السلطة في أيدي بضعة أشخاص فقط أو لنقل شركات التكنولوجيا التي يملكها هؤلاء الأشخاص، وهذه الشركات لا تخضع لرقابة صارمة.

وفي هذا السياق، يقول المدير المالي الأسبق لشركة "غولدمان ساكس" مارتين شافيز في محاضرة له بمركز جامعة هارفارد للعلوم في عام 2000، "كان لدينا 600 شخص يصنعون أسواق الأسهم الأميركية.. اليوم، لدينا شخصان والكثير من البرامج".

أن يُسيطر شخصان فقط على سوق الأسهم الأميركية، وهو الأكبر في العالم وأغناها وأكثرها فعالية، فهذا يعني شيئا واحدا فقط وهو الاحتكار، وهو بكل تأكيد ضد مبدأ حرية التجارة الذي هو محور الرأسمالية. وهذا يعود بنا لسؤال في غاية الأهمية وهو: هل عادت البشرية لعصر الإقطاع؟

الإقطاع هو نظام من العلاقات الاقتصادية الزراعية، حيث تكون وسيلة الإنتاج الرئيسية وهي الأرض ملكا لشخص واحد، ويعمل الفلاحون الذين كان يطلق عليهم الأقنان في أرض هذا الشخص، الذي يسمى الإقطاعي.

ويملك الإقطاعي الأرض والمنازل والفلاح، الذي يقضي معظم وقته في العمل وعليه أن يعطي ربع محصول الأرض للإقطاعي، وقد سميت هذه العلاقات الاقتصادية بالإقطاعية.

ألا يشبه ما يجري في شركات مثل أمازون وعلي بابا وغوغل وغيرها من عمالقة التكنولوجيا ما كان يجري في زمن الإقطاع؟ تملك هذه الشركات العملاقة "الأرض الرقمية"، حيث تملك جميع "المحلات" التي تتاجر في الأدوات والملابس والأحذية والكتب والأغاني والألعاب والأفلام وكل ما يخطر على البال، وتحدد هذه الشركات ما يعرض في هذه المتاجر الرقمية، وطريقة عرضه، وثمنه، وتأخذ مقابل ذلك مبلغا ماليا يتم اقتطاعه من كل عملية بيع تجري في متاجرها. هو بكل تأكيد إقطاع، لكنه إقطاع رقمي هذه المرة.

epa08798133 (FILE) - Alibaba logo is seen at the company headquarters building in Shanghai, China, 21 July 2020 (reissued 04 November 2020). Alibaba is due to publish their 3rd quarter 2020 results on 05 November 2020. EPA-EFE/ALEX PLAVEVSKI
شعار علي بابا يظهر في مبنى المقر الرئيسي للشركة في شنغهاي الصينية (الأوروبية)

هل قتل الاقتصاد الرقمي الرأسمالية؟

عندما تدخل موقعا مثل أمازون أو علي بابا تكون قد خرجت من منطقة الرأسمالية، وعلى الرغم من كل عمليات البيع والشراء التي تجري هناك، فإنك قد دخلت عالما لا يمكن اعتباره سوقا ولا حتى سوقا رقميا، وفق ما يؤكد الكاتب يانيس فاروفاكيس في مقالته آنفة الذكر بصحيفة الغارديان.

وذلك لأن الخوارزميات التي تقف خلف هذه المواقع تفرض على المستهلك نوع المنتج الذي يمكنه الاطلاع عليه، وتقوم بتسويقه ليشتريه المستهلك في النهاية، وفي اللحظة ذاتها ترفض عرض المنتجات الأخرى التي لا تخضع لاشتراطات الشركات التي تتبع لها هذه الخوارزميات، وبالتالي فهي سوق ذات اتجاه واحد فقط، تعرض ما تريده فقط.

ويوضح فاروفاكيس "هذه ليست سوقا. إنها ليست حتى شكلا من أشكال السوق الرقمية المفرطة في الرأسمالية. في الواقع، إنها أسوأ من السوق المحتكرة بالكامل، فهناك، على الأقل، يمكن للمشترين التحدث مع بعضهم بعضا، وتشكيل جمعيات، وربما تنظيم مقاطعة استهلاكية لإجبار المحتكر على خفض الأسعار أو تحسين الجودة. ليس الأمر كذلك في عالم جيف (المقصود هنا جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون)، حيث لا يخضع كل شيء وكل شخص ليد السوق الخفية النزيهة، بل لخوارزمية تعمل من أجل تحقيق النتيجة النهائية لجيف وترقص حصريا على أنغامه".

تبدو هذه صورة مرعبة لكنها واقعية بدرجة كبيرة، فالخوارزميات لا تتحكم في البضائع والمنتجات التي يتم عرضها على المستهلكين فقط، بل تتحكم في المحتوى والأفكار أيضا، ولعل أقرب مثال على ذلك حجب شركات التواصل الاجتماعي الكبرى -مثل فيسبوك وإنستغرام- أي محتوى داعم للقضية الفلسطينية خلال العدوان الإسرائيلي المستمرة فصوله الدامية على قطاع غزة المحاصر. قد يبدو أننا نُدخل موضوعا في آخر، ولكن الفكرة هي نفسها، وهي السيطرة على المستهلك، والتحكم بنوع المنتج الذي يشاهده والذي سيقوم بشرائه في النهاية.

المصدر : الجزيرة