منذ انطلاقتها، في أيار 2021، لم تكن منصة «صيرفة» أكثر من أداة لمصرف لبنان للتدخّل في السوق والتأثير فيه بشكل مباشر أو غير مباشر أحياناً. على الصعيد المباشر، يحصل التأثير عبر تأمين كميات من الدولارات لعرضها في السوق بسعر أقل من سعر الصرف في السوق الموازية، وبشكل غير مباشر عبر التأثير في سلوك الأفراد والمؤسسات لدى تحريك السعر على المنصة.أمس، أصدر مصرف لبنان بياناً أعلن رفع سعر الصرف على منصة «صيرفة» من 31200 ليرة إلى 38000 ليرة مقابل الدولار الواحد. ظاهرياً، استخدم «المركزي» هذه الأداة لخفض سعر الدولار عبر التأثير على حركة السوق وفلتان عملية التداول. لكنه، في المقابل تسبب بقراره هذا في ارتفاع أسعار الخدمات المفوترة، كالاتصالات والكهرباء، التي لا تزال تُحتسب على أساس سعر «صيرفة»، وهو في الغالب أقل بعدة آلاف من الليرات من سعر السوق السوداء.
فمع رفع المصرف المركزي سعر «صيرفة» بنحو 22% (6800 ليرة) بشحطة قلم، ارتفعت أسعار هذه الخدمات أيضاً. على سبيل المثال، زاد أمس سعر بطاقة «التشريج» المسبقة الدفع المسعّرة بـ 7.58 دولارات، في غضون دقائق، من 263 ألف ليرة إلى 321 ألفاً. كذلك ارتفع بشكل تلقائي سعر الكيلواط المنتج من مؤسسة كهرباء لبنان. إذ إن التعديل الأخير الذي رفع تعرفة الكهرباء سعّر كل كيلواط ساعة بـ 10 سنتات لأوّل 100 كيلواط/ ساعة، و27 سنتاً لما يفوقها. وقد احتُسبت هذه التسعيرة على أساس سعر المنصة (30 ألف ليرة للدولار حين رفع التعرفة)، ما يعني أيضاً زيادة في سعر الكيلواط بنسبة 22%، علماً أن هذا الارتفاع لن يلمسه المستهلكون بشكل مباشر، إذ إن الفواتير المسعّرة على أساس سعر 30 ألف ليرة لكل دولار لم تصلهم بعد ليشعروا بالفرق الذي أحدثه قرار المركزي.
كذلك، ستتأثر بعض الرسوم التي تُستوفى على أساس سعر صيرفة، مثل رسم الطابع المالي الذي أصبح يُحتسب على أساس سعر صيرفة منذ 15 تشرين الثاني الماضي.
أما أكثر التأثيرات الملموسة فهي تلك التي ستنعكس على مداخيل موظفي القطاع العام. إذ استفاد هؤلاء، على مدى شهور، من التعميم 161 الذي أصدره المصرف المركزي نهاية عام 2021، وقضى بإلزام المصارف صرف دولارات نقدية للموظفين على أساس سعر صرف منصّة «صيرفة» مقابل قيمة رواتبهم، وما يسحبونه من حساباتهم وفق السقوف غير الشرعية للمصارف. وقد أفاد هؤلاء من الفارق بين سعر «صيرفة» وسعر الصرف في السوق. ولكن مع رفع سعر المنصّة، تقلّص الفارق بين السعرين ما يعني تراجع «الربح» الذي كانوا يجنونه من هذه العملية، وبالتالي مزيداً من التآكل في قدراتهم الشرائية بعدما كانت العملية تسدّ جزءاً بسيطاً من احتياجات هؤلاء.
منذ بداية الأزمة، ومع استنفاد «المركزي» لاحتياطاته بالعملات الأجنبية، لم يعد هذا الأخير قادراً على التدخّل بشكل فعّال في سوق سعر الصرف، أي عبر ضخ الدولارات لزيادة العرض مقابل الطلب، وبالتالي تخفيض سعر الصرف أو المحافظة عليه عند مستوى معيّن. إذ أصبح هامش المناورة لديه في هذا الجانب ضيقاً جداً، بمعنى أنه لم يعد قادراً على التدخّل بكميات كبيرة. لذا، بدأ المصرف اتباع أساليب تتخطّى التدخّل المباشر في السوق، حتى أصبح تأثيره مقتصراً على التوجّه إلى سلوك الأفراد والمؤسسات في السوق. وقد كانت منصة «صيرفة» إحدى الأدوات لديه لفعل ذلك، من دون الاكتراث لتأثيرات استخدامها على أسعار السلع والخدمات.