إصابتان مؤكدتان بوباء الكوليرا وعشرات أخرى بالتهاب الكبد الوبائي «أ». هذه ليست الحصيلة النهائية لوباءين يعاودان الظهور في البلاد بعد غياب سنواتٍ طويلة، وإنما بداية ما هو قادم، سواء لناحية ازدياد أعداد المصابين بالكوليرا والتهاب الكبد، أو في ظهور أوبئة جديدة. «هذا أمر محسوم طبيعي»، يقول اختصاصي الأمراض الجرثومية الدكتور عبد الرحمن البزري، وأكثر من ذلك هو «طبيعي»، يضيف.
أسباب عالمية
اللهجة الحاسمة التي يتحدّث بها البزري تنطلق من جملة أسبابٍ تراكمت وأوصلتنا إلى هنا. يشير البزري أولاً إلى أسبابٍ عالمية أدّت إلى ظهور فيروسات وأوبئة جديدة أو «ما يسمى بتصرّف جديد لأوبئة قديمة كما حدث في جدري القردة» في الكثير من دول العالم ومنها لبنان، وثانياً إلى أسباب محلية «شكّلت مناخاً ملائماً لعودة أوبئة قديمة، ومنها وباء الكوليرا المستجد بعد ثلاثين عاماً» (آخر إصابة سجلت في لبنان كانت عام 1993).
على المستوى العالمي، يسرد البزري أربعة أسباب رئيسية؛ يأتي في مقدّمها التوسع البشري، وتعدّي الإنسان على الطبيعة، وخصوصاً الغابات الاستوائية، «حيث دخل البشر كمضيف طارئ على تلك الطبيعة ما أثّر على الدورات الحياتية للفيروسات». ويلحق بهذا الأمر السبب الآخر المتعلق بالاحتباس الحراري، «إذ إن بعض الأمراض تحتاج إلى نواقل (قوارض)، والحرارة تعمل على تغيير خريطة النواقل ما أسهم في ظهور أنواع منها في مناطق لم تكن موجودة فيها، ما أدّى بالتالي إلى ظهور أمراض فيها». أما السببان الأخيران فيتعلقان بتغيّر العادات والأساليب الحياتية وأنماط المعيشة من جهة، وسهولة السفر من جهة ثانية، الذي أدّى بدوره إلى سرعة انتقال الأوبئة والأمراض بين الدول، وسهولتها.

...وأسباب محلية
غير أنّ كلّ هذه الأسباب، على أهميتها، ليست كافية لتبرير وصول الكوليرا إلى لبنان، رغم أنّها قد تكون مستوردة من سوريا، التي تخطّت الإصابات فيها عتبة العشرة آلاف، إذ ثمة أسباب محلية أدّت إلى جعل الكوليرا اليوم «نصف مستورد ونصف محلي». يردّ البزري الأسباب المحلية إلى الانهيار السياسي الذي طال بتداعياته مختلف مؤسسات الدولة، وأهمّها انهيار البنية الصحية الخدماتية. فاليوم، معظم المناطق اللبنانية بلا مياه شفة صالحة للشرب وبلا كهرباء بما ينعكس فساداً في الأمن الغذائي وبلا رقابة عامة و«مع صرف صحي». هذه المعادلة تقود بلا شك إلى التهاب الكبد والكوليرا وغيرهما أيضاً. وعلى هذا الأساس، ونتيجة فشل الخدمات الصحية، فإن لبنان «معرّض لأوبئة مرتبطة بصيانة البنية التحتية»، يؤكد البزري.
كذلك تؤدي الحدود المفتوحة وغير المنضبطة دوراً أيضاً في ظهور الكوليرا. وينطلق البزري من الدولة الجارة التي ظهرت فيها قبل فترة حالة شلل أطفال و«منذ آب نراقب ظهور الكوليرا فيها وخصوصاً في المناطق الخارجة عن السيطرة الحكومية، حيث تصبح الخدمات أقل».
ثمة عوامل إضافية لا تقلّ أهمية وتتعلق بالإجابة عن سؤالٍ أساسي: أيّ جيلٍ «نخرّج» اليوم على الصعيد الصحي؟ إذ تشير الدراسات الحديثة إلى انخفاض نسب التلقيح بين الصغار إلى حدود 40%، وهذا يعني أننا أمام جيل بلا مناعة ومعرّض لالتقاط الأوبئة والفيروسات بشكلٍ أسرع. ويتخوّف البزري من قدوم الشتاء المقبل في ظلّ هذه البنية المتهالكة و«خصوصاً إذا أتى بنفس غزارة العام الماضي، إذ من الممكن أن تطوف مجاري الصرف الصحي في مناطق كثيرة بما يزيد من تلك الأمراض».
إلى كل تلك الأسباب، يضاف غياب الإمكانات في كلّ أجهزة الدولة، فيما الحلول تكمن في مكانٍ واحد: معالجة البنية التحتية الصحية، وبذلك «نكون قد ضربنا عصفورين بحجرٍ واحد، واستعادة القطاع والخلاص من الأوبئة».