أحمد جبريل... رائِدُ العمليَّاتِ النوعِيَّةِ ضِدَ الاحتلال | بقلم هيثم زعيتر
يطوي أحمد جبريل "أبو جهاد" أمين عام "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" - "القيادة العامة" 83 عاماً من عُمُرِه الحافلة مُنذُ طفولته بالنضالِ الفلسطينِيِّ من أجل فلسطين.
يرحلُ أحد آخر الأُمَنَاءِ العامّين لفصائل الثورة الفلسطينية، حيث يتولّى الأمانة العامة لـ"القيادة العامة" مُنذُ العام 1968.
تحفلُ مسيرَتُهُ، التي يعترف بها حتى مَنْ اختلفوا معه في السياسةِ والأعداء، بأنّها كانت نوعيَّةٌ بتنفيذ العمليات الفدائية التي لا تقتصرُ على البر والبحر، بل كان طليعياً باختيار الجو عبر الطائرات الشراعية.
الطِفلُ الذي وُلِدَ في فلسطين في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1938 في قرية يازور - قضاء يافا، خرج وهو ابن الـ10 سنوات لاجئاً مع عائلته إلى سوريا، التي تعلّم فيها، وما أنْ أنهى تعليمَهُ حتى قَصَدَ الكليَّةَ الحربيَّةَ في القاهرة التي تخرّج منها في العام 1959 ليُعيَّنَ ضابطاً في الجيش السوري، قبل أنْ يُسرَّح منه في العام 1963، بعدما كان قد أسَّس "جبهة التحرير الفلسطينية"، لينطلق بالمشاركة في التأسيس مع فصائل الثورة الفلسطينية، ولم تُثمِر المُشاورات لإلتحاقها بحركة "فتح" بعد إعلان انطلاقتها في العام 1965.
في خِضَمِّ تَعَاظُمِ نشاطِ "حركة القوميين العرب" ووجود مُنظّمَتَيْ "أبطال العودة" و"شباب الثأر" شارك مع الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد في تأسيس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" قبل أنْ يتركها في العام 1968، ويُشكِّل تنظيماً أطلق عليه اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" - "القيادة العامة".
كان جبريل دائماً أقرب إلى سوريا، حتى في لحظات الاختلاف مع "مُنظّمة التحرير الفلسطينية" بقيادة الرئيس ياسر عرفات، وخوض معارك ضد حركة "فتح" والثورة في طرابلس أو حرب المُخيّمات.
لكن في لحظات الشِدّة بقي من الأوفياء القلّة، الذين استمرّوا بالتواصل مع الرئيس "أبو عمّار" أثناء حصارِهِ في مقر المُقاطعة في رام الله، قبل إعلان استشهاده بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004.
يُعتبر جبريل من قادة الثورة الفلسطينية المُميّزين بالعمل الفدائي النوعي باختياره الأهداف والمُتابعة لأدقِّ التفاصيل، وهو الخبير العسكري والأمني بذلك.
كما أنّه كان دائماً في المواقع الأمامية للمُواجهة، حيث يتطلّب تواجده، ما يُعطي حافزاً للفدائيين، مُفضِّلاً الاستشهاد في ساحة المعركة على الوفاة فوق سرير المرض في المستشفى، فعاد إلى بيروت في مثل هذه الأيام خلال الحصار الإسرائيلي للعاصمة بيروت في العام 1982.
كان هدفاً دائماً للاحتلال الإسرائيلي، الذي حاول خطفه أو اغتياله مرّاتٍ عِدّة ففشل بذلك، لكنه نجح باغتيال نجله ومساعده الأيمن جهاد.
في الكثير من الأحيان كان الاحتلال يُنفِّذ غاراتٍ في أماكن يتواجد فيها "أبو جهاد"، فيحتمي داخل أحد الأنفاق، التي كانت "القيادة العامة" في طليعة من حفر الجبال لإقامتها في مُخيّم عين الحلوة والناعمة.
يُسجِّلُ التاريخ له العمليات الفدائية النوعية، ومن بينها عملية الطائرة الشراعية "قبية"، التي نفّذها 4 فدائيين من "القيادة العامة" ليل 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، وهم فلسطينيان وتونسي وسوري تسابقوا بالانطلاق من وادي البقاع، مُحلِّقين باتجاه سماء فلسطين، فتعطّلت طائرتان وتحطّمت ثالثة، واستطاع قائد الطائرة الرابعة السوري خالد أكر التحليق بدقة وعناية متفادياً الرادارات الإسرائيلية، إلى أنْ تمكّن من الهبوط في منطقة الهدف "مُعسكر غيبور" - قرب بيت هيلال في منطقة الجليل الفلسطيني المُحتل، الذي يضم النخبة في جيش الاحتلال، فاستشهد بعدما أوقع 37 قتيلاً وجريحاً من جنود الاحتلال.
تلك العملية التي أشرف عليها جهاد جبريل شخصياً، حدّثني بعض مَنْ واكب تدريبات اللحظات الأخيرة على تنفيذها، بأنّ الشهيد أكر كان يسألهم عن وزن القنبلة لاستحواذ الكثير منها بدلاً من الماء أو الطعام، الذي كان من المُفترض أنْ يتزوّد به، لأنّه عزم على الاستشهاد وليس العودة، للتمكّن من إيقاع المزيد من الخسائر في جنود الاحتلال.
كانت تلك العملية قد سبقت انطلاقة "الانتفاضة الأولى" - "انتفاضة الحجارة" بأسبوعين.
بعدها التقيتُ "أبو جهاد" جبريل، خلال زيارة في طرابلس الغرب - ليبيا، الذي تحدّث بإسهابٍ عن هذه العملية ومدلولاتها بالتنفيذ والأسلوب والتوقيت!، وكذلك في لقاءات متعدّدة بين لبنان وسوريا.
استطاعت "القيادة العامة" إنجاز عمليات تبادل لأسرى فلسطينيين وعرب ومُناضلين في صفوف الثورة الفلسطينية، مُقابل إطلاق سراح جنود إسرائيليين أسرى كانت قد اختطفتهم في طليعة ذلك:
- "عملية النورس" التي جرت بتاريخ 14 آذار/مارس 1979، حيث أطلقت "القيادة العامة" سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته خلال عملية الليطاني بتاريخ 5 نيسان/إبريل 1978 بالقرب من منطقة صور، مُقابل إفراج الاحتلال عن 76 أسيراً فلسطينياً كانوا في سجونها.
- "عملية الجليل" التي نُفِّذَتْ بتاريخ 20 أيار/مايو 1985، وأطلق خلالها الاحتلال سراح 1155 أسيراً، كانوا مُحتجزين داخل سجونه في الأراضي الفلسطينية المُحتلة و"مُعتقل عتليت" بعدما خطف ونقل الاحتلال الأسرى من "مُعتقل أنصار"، وبينهم المُفرج عنهم مُؤسِّس حركة "حماس" الشيخ أحمد ياسين والفدائي الياباني كوزو أوكاموتو، مُقابل الإفراج عن 3 جنود كانت "القيادة العامة" قد أسرتهم خلال "معركة السلطان يعقوب" في البقاع الغربي بتاريخ 11 حزيران/يونيو 1982، إثر الغزو الإسرائيلي.. وفي منطقة بحمدون في جبل لبنان بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 1982، حينها بقي 6 جنود آخرين بحوزة حركة "فتح"!
القائد الذي كان يتقدّم الخطوط مُشاركاً الفدائيين في عملياتهم، زفَّ نجله البكر جهاد شهيداً، بعدما اغتاله "الموساد" الإسرائيلي بتفجير عبوّة زرعها في سيارته من نوع "بيجو 505"، انفجرت صباح يوم الخميس في 30 أيار/مايو 2002، في شارع الماما المُتفرِّع من شارع مار إلياس، وسط العاصمة اللبنانية بيروت.
ودَّع "أبو جهاد" نجله ابن الـ38 عاماً، الذي كان يتولّى الإشراف على عمليات "القيادة العامة" النوعية، ومد "الانتفاضة الفلسطينية الثانية" - "انتفاضة الأقصى"، لكن ذلك لم يُثنه عن مُواصلة الطريق بانخراط نجليه خالد وبدر في المسيرة النضالية.
سيحفظ تاريخ النضال الفلسطيني مآثر وبطولات وعمليات نوعية فيها بصمات "أبو جهاد" جبريل، الذي يُوارى الثرى إلى جوار قدوة العمل الفدائي الفلسطيني، العامل بصمت، خليل الوزير "أبو جهاد"، في مُخيّم اليرموك، الذي أمعن الإرهابيون بنبش قبور الشهداء فيه الذين أذاقوا المرارة للمُحتل الإسرائيلي.
المصدر | هيثم زعيتر