نحو بيئة جامعية مُحفِّزة للابتكار: قراءة تربوية نقدية في تجارب دولية مقارنة

بقلم المربي الأستاذ كامل عبد الكريم كزبر
إشكالية النشر الأكاديمي وضعف الابتكار في الجامعات العربية
تواجه الجامعات في العالم العربي تحديًا تربويًا وتنمويًا يتمثل في استمرار هيمنة ثقافة النشر الأكاديمي بوصفه المعيار الأبرز للتقدم فيما يبقى الابتكار وبناء الجسور مع الصناعة في موقعٍ ثانوي. ورغم الارتفاع الملحوظ في حجم الإنتاج العلمي خلال السنوات الأخيرة إلا أن أثره الاقتصادي ما يزال محدودًا إذ تُظهر مؤشرات براءات الاختراع ونقل التقنيات إلى السوق فجوة واضحة مقارنة بدول استطاعت تحويل المعرفة إلى منتجات وخدمات ذات قيمة مضافة.
نموذج "دولة الاحتلال": الابتكار في قلب فلسفة التعليم العالي
في المقابل تُقدّم تجارب دولية عدة نماذج تربوية وتنظيمية مختلفة ففي "دولة الاحتلال" مثلا يحتلّ الابتكار موقعًا محوريًا في فلسفة التعليم العالي فالجامعات هناك طوّرت منظومات فاعلة لنقل التكنولوجيا وتمتلك آلاف البراءات ومشروعات بحثية تحوّلت إلى منتجات وشركات ناشئة مما جعل المختبر جزءًا من دورة اقتصادية متكاملة لا تقتصر على النشر.
نموذج بريطانيا: إدارة الأبحاث بوصفها أصولًا اقتصادية
أمّا بريطانيا فتعرض مثالًا ناضجًا لجامعة فاعلة اقتصاديًا إذ تعتمد جامعات مثل أوكسفورد وكامبريدج وإمبريال كوليدج ممارسات تُحوّل نتائج الأبحاث إلى حلول علاجية ورقمية وصناعية وتتعامل مع براءات الاختراع بوصفها أصولًا استراتيجية تُدار بفاعلية وتُوظّف في دعم الاقتصاد الوطني.
الحالة اللبنانية: طاقات بشرية عالية وفجوات مؤسسية عميقة
وعلى الصعيد اللبناني تبدو الصورة مركّبة حيث أن بعض الجامعات اللبنانية تمتلك طاقات بشرية مميزة وبنى بحثية قادرة على المنافسة وحققت خلال السنوات الماضية إنجازات بحثية لافتة في مجالات الطب والعلوم والهندسة إلا أنّ المنظومة البحثية ما تزال تعاني من فجوة واضحة بين المختبر والسوق إذ تفتقر معظم الجامعات إلى مكاتب نقل تكنولوجيا فاعلة وإلى سياسات تمويل مستدامة للبحث التطبيقي فضلًا عن ضعف الشراكات الصناعية نتيجة انهيار الاقتصاد وغياب بيئة تشريعية تنظّم الابتكار وتحمي الملكية الفكرية ومع أنّ هناك محاولات جديّة لإطلاق حاضنات أعمال إلا أن أثرها يظل محدودًا بسبب غياب الدعم الحكومي وضعف الاستثمار الخاص في البحث العلمي.
خلاصة تربوية: من نشر الأوراق إلى بناء منظومات ابتكار
تكشف المقارنة التربوية بين هذه النماذج أن التحدي في لبنان والعالم العربي لا يرتبط بقدرات الباحثين، بل بغياب منظومة مؤسسية تُكافئ الابتكار الحقيقي وتوفّر حماية للملكية الفكرية وتُفعّل دور المختبر الجامعي ضمن سلسلة الإنتاج والتنمية ومن هنا تأتي الحاجة إلى انتقال تربوي في التفكير والممارسة أي من التركيز على الكمّ إلى تعظيم الأثر ومن الاكتفاء بالأوراق العلمية إلى بناء مختبرات فاعلة ومكاتب نقل تكنولوجيا وشراكات إنتاجية متينة مع الصناعة.
نحو معيار جديد لنجاح الجامعات في القرن الحادي والعشرين
إن الجامعات العربية واللبنانية لن يُقاس نجاحها في القرن الحادي والعشرين بما تُنشره من أبحاث فقط، بل بما تُنتجه من ابتكارات وشركات وتقنيات تُسهم في تنمية المجتمع وتعزيز اقتصاد المعرفة.

