صيدا سيتي

إعادة الارتباط بهوسك الطفولي وأثره في مسار الحياة المهنية

إعداد: إبراهيم الخطيب - الثلاثاء 28 تشرين أول 2025 - [ عدد المشاهدة: 278 ]

الميل المبكر في الطفولة يحمل دلالةً بنيوية على الاستعدادات العميقة لدى الفرد. وتقدّم سيرة ماري كوري مثالًا إيضاحيًا بالغ القوة. فحين كانت في الرابعة، شدّتها خزانة أدوات المختبر في غرفة والدها؛ تكررت زياراتها، وتكاثرت تخيّلاتها للتجارب والأجهزة والأنابيب. وعندما دخلت مختبرًا حقيقيًا بعد سنوات مارست التجربة بيديها فورًا، ووجدت نفسها في حقلٍ يلائم تكوينها الداخلي، لتبدأ رحلةً علميةً صنعت علامات فارقة في الفيزياء والكيمياء.

1) الدلالة النفسية والتربوية للهوس المبكر

تُظهر أبحاث علم النفس النمائي أنّ الفضول عند الطفل يعمل بوصفه بوصلة إدراكية. موضوعٌ واحد يلفت الحسّ البصري والسمعي والحركي، ثم يراكم العقلُ حوله أسئلةً ومحاولاتٍ متكررة. هذا التركّز يكوّن “ذاكرة وجدانية” ترتبط بالمتعة والاستكشاف، فينشأ استعداد طويل الأمد للتعمّق في المجال نفسه خلال المراهقة والشباب. وعند توفر بيئةٍ تسمح بالمحاولة والتكرار، يتشكل ما يمكن تسميته “العادة المعرفية” التي ترافق الفرد وتدعمه خلال التعليم والعمل.

قصة ماري كوري (1867-1934) تحمل هذه العناصر كاملة: انشداد بصري لأدوات المختبر في الطفولة، تعرّض متكرر للمثير نفسه، خيال تجريبي مبكر، ثم دخولٌ لاحق إلى المختبر وتحوّل الفضول إلى ممارسة. بعد ذلك بسنوات قليلة، أعلنت مع بيار كوري اكتشاف البولونيوم والراديوم عام 1898، ثم حصلت على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903، تلتها جائزة نوبل في الكيمياء عام 1911. تتجاور في هذه السيرة ثلاثة عناصر: ميول الطفولة، وتعريض بيئي مناسب، وفرصة تحوّل الميل إلى إنجازٍ قابل للقياس.

2) من الميل إلى “المهنة التي خُلقت لأجلها”

يكشف علم الاجتماع المهني أنّ مساراتٍ واسعة من أصحاب الإنجاز بدأت بإشارة مبكرة ثم تراكمت عبر تعليمٍ منظّم وشبكات دعم.

فولفغانغ أماديوس موزارت (1756-1791): موهبة موسيقية مبكرة، قدّم عروضًا في سن السادسة، وألف أعمالًا كبيرة في عقده الثاني. تتصل الموهبة الطفولية هنا ببيئةٍ أسرية موسيقية، وبرنامج تدريب يومي شاق، وبفرص رعاية ملكية مبكرة.

جَيْن غودال (مواليد 1934): ميولٌ للحيوانات والطبيعة منذ الصغر، حملت دفتر ملاحظات صغيرًا في طفولتها، ثم انتقلت عام 1960 إلى غومبي في تنزانيا لدراسة الشمبانزي ميدانيًا، فغيّرت فهم العالم لسلوك القِرَدة العليا وأسست معايير رصد طويلة الأمد.

أحمد زويل (1946-2016): انجذاب للمعمل المدرسي في دمنهور والاسكندرية، ثم تركيز متزايد على الكيمياء الفيزيائية، وصولًا إلى جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 بفضل ابتكار “الفيمتوثانية” في تصوير التفاعلات.

زها حديد (1950-2016): ولع مبكر بالأشكال والهندسة والرياضيات، ثم دراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت ومدرسة الجمعية المعمارية في لندن، فأنتجت ابتكاراتٍ شكلت علامة في عمارة المتاحف والمراكز الثقافية، وتُوّجت بجائزة بريتزكر عام 2004.

تجمع هذه السير عناصر مشتركة: إشارة طفولية واضحة، تعلّقٌ متكرر بمثيرٍ محدّد، انتقالٌ من الفضول إلى تمارين عملية، ثم مؤسسات ترعى الموهبة وتفتح ممرّات الإنجاز.

3) لماذا تحمل الطفولة مفاتيح التخصّص اللاحق؟

نقاء الدافع: خبرات الطفولة ترتبط باللعب والاكتشاف الحر. وعندما يتكرّر الانجذاب لموضوعٍ بعينه، يظهر دافع داخلي غير مُستعار من توقعاتٍ اجتماعية مؤقتة.

التغذية الراجعة السريعة: الطفل يجرّب ثم يلاحظ أثر المحاولة فورًا. تكرار النجاح الصغير يولّد دائرة تعزيز قوية، فتتشكل “كفاءة مبكرة” تمنح صاحبها ثقةً في هذا المجال.

سعة الوقت: سنوات الطفولة تسمح بألف ساعةٍ إضافية من التماس مع موضوعٍ محدّد، الأمر الذي يخلق فجوةً تراكميةً في المهارة عند سنّ المراهقة مقارنةً بالأنداد.

التخيل التطبيقي: الخيال عند ماري كوري - تصوّر تجارب وأجهزة قياس - يمثّل تدريبًا ذهنيًا على التفكير التجريبي قبل أي تعليم رسمي، فتأتي الممارسة اللاحقة فوق أرضيةٍ صلبة.

4) كيف نعيد الارتباط عمليًا؟

إن قاعدة: “أَعِد الارتباط بهوسك الطفولي.” وتطبيقها يتطلب خطواتٍ منهجية:

استخراج السجلّ المبكر: كتابة ثلاث أو أربع ذكرياتٍ محورية بين سنّ الرابعة والثانية عشرة: لعبة مفضّلة، ركنٌ في المكتبة، نشاطٌ مدرسي. ثم تحويل الذكريات إلى “أنماط”: تجريب، سرد قصصي، تنظيم أشياء، إصلاح أجهزة…

تحويل الأنماط إلى مجالات عمل: الميل إلى تفكيك الأشياء يلتقي مع الهندسة والميكاترونكس. الهوى السردي يلتقي مع الصحافة والكتابة الإبداعية وإنتاج المحتوى. حبّ النباتات يفتح مساراتٍ في الزراعة الذكية والبيئة والاستدامة.

تصميم أسبوع اختبار: توزيع عشر ساعاتٍ على تجربتين أو ثلاث ترتبط بالميل القديم. مثال: من كان يهوى الرسم يمكنه الالتحاق بورشة “تصميم واجهات” لمدة أسبوعين. من كان يعشق المختبرات يمكنه دورة قصيرة في تحليل المياه أو الأحياء الدقيقة.

قياس الارتياح والإنجاز: إعداد مذكّرة يومية من خمس أسطر حول التركيز والمتعة وتعلّم مهارةٍ مصغّرة. ثم اختيار التجربة الأعلى في مؤشرات التقدم.

بناء جسرٍ تعليمي - تحديد مسارٍ تدريجي: دورات تأسيسية، ثم مشروع تطبيقي، ثم شبكة زملاء، ثم إشراف أكاديمي أو مهني. تتطلّب هذه المرحلة جدولًا زمنيا واضحًا وميزانية متناسبة مع الموارد.

صناعة “مختبر حياة”: تخصيص ركنٍ في البيت أو المكتب للأدوات المرتبطة بالمجال المختار: طابعة ثلاثية الأبعاد للهندسة، لوحة إلكترونية للأردوينو، برنامج تحرير صوتي للبودكاست، عدّة تصوير مصغّرة لصانع محتوى، أو مجموعة زراعة مائية لمحبّ النباتات. هذا الركن يعمل كبوصلة يومية تدفع إلى التكرار والتراكم.

5) شواهد حديثة تربط الطفولة بالمآلات المهنية

ستيف جوبز (1955-2011): ولع مبكر بالإلكترونيات في مرآب بيت العائلة، ثم لقاءٌ محوري بستيف وزنياك في السبعينيات، فأسّسا شركة آبل عام 1976، وأطلقا “ماكنتوش” 1984، ثم “الآيفون” 2007 الذي أعاد تشكيل سوق الهواتف الذكية.

إيلون ماسك (مواليد 1971): تعلّق بالبرمجة في الطفولة، طوّر لعبة “بلاستار” ونشر شيفرتها عام 1984، ثم مسارات ريادة في البرمجيات والفضاء والطاقة منذ تسعينيات القرن العشرين، مع تأسيس “سبيس إكس” 2002 و“تسلا” في العقد نفسه.

نجيب محفوظ (1911-2006): شغف مبكر بالقراءة والتأمل في الحارة القاهرية، ثم تتويج المسار بجائزة نوبل للآداب عام 1988. المثير الطفولي - حكايات الناس ومشاهد المدينة - تحوّل إلى عوالم روائية راسخة.

زها حديد مرةً أخرى نموذجٌ عربي عالمي: ميلٌ للأشكال والخطوط منذ الطفولة، ثم أثرٌ معماري واسع في القرن الحادي والعشرين: مركز حيدر علييف في باكو (افتتاح 2012)، ومتحف ماكسي في روما (افتتاح 2010)، ومشاريع في لندن والدوحة وسول.

توضح هذه السير أنّ الإشارة المبكرة لا تتوقف عند حدود الموهبة المجردة؛ بل تتحول إلى إنجاز حين تتصل ببرامج تعلمية وأطر مؤسسية وفرص تطبيق متزايدة.

6) متطلبات بيئة داعمة لإعادة الارتباط

إتاحة الأدوات: وجود أدواتٍ ملموسة يختصر المسافة بين الخيال والتطبيق. كتب مبسطة، أطقم علمية، برامج رقمية تعليمية، وأندية هوايات.

معلم مرشد: وجود خبير يمنح تعليماتٍ قصيرة وتغذية راجعة سريعة. الإشراف يضاعف سرعة التعلّم ويخفف أخطاء البداية.

شبكة زملاء: رفاقٌ يشاركون الاهتمام يسهمون في تبادل مصادر ومساءلة أسبوعية ودعمٍ معنوي.

مناسبات عرض: مسابقات محلية، أيام عرض مشاريع، نشر تدويناتٍ أو مقاطع قصيرة. العرض يمنح المعنى ويحول الجهد إلى أثرٍ اجتماعي.

خطّة زمنية - مراحل واضحة: تأسيس لمدة ثلاثة أشهر، ثم مشروع صغير لمدة شهرين، ثم مستوى متوسط لستة أشهر، ثم تدريب عملي.

7) قراءة ختامية لقاعدة “أعِد الارتباط”

الميل الطفولي مؤشرٌ معرفيٌّ على بنية الاهتمام، ونافذةٌ على “المهنة الملائمة”. وعند تحويل هذا الميل إلى ممارسة منتظمة ضمن بيئةٍ غنية بالأدوات والأصدقاء والمرشدين، يتولد مسارٌ مهني قابل للرسوخ. سيرة ماري كوري تؤكد ذلك عبر محطاتٍ واضحة: انبهار طفولي بالأدوات، ممارسة لاحقة للتجارب، ثم اكتشافات عام 1898، وجوائز نوبل في 1903 و1911. وسير موزارت وغودال وزويل وزها حديد ومحفوظ وجوبز تقدّم الشاهد نفسه عبر مجالاتٍ متعددة.

إذن، تُعدّ “إعادة الارتباط بهوسك الطفولي” استراتيجيةً عملية لاكتشاف الشغف وتحديد مهمة الحياة. والمفتاح يبدأ بتوثيق الذكريات المبكرة، ثم اختبارٍ قصيرٍ يعيد إشعال الشرارة، ثم تعليمٍ منظّم، ثم مختبرٍ صغير في البيت أو المكتب، ثم شبكة زملاء وعرضٌ متكرر للنتائج. عندها يتحوّل الفضول إلى خبرة، والخبرة إلى قيمةٍ مهنية واجتماعية، وتظهر المهنة التي توافق تكوين الفرد وحاجات المجتمع في آنٍ واحد.


 
design رئيس التحرير: إبراهيم الخطيب 9613988416
تطوير وبرمجة: شركة التكنولوجيا المفتوحة
مشاهدات الزوار 1006958234
الموقع لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة فيه. من حق الزائر الكريم أن ينقل عن موقعنا ما يريد معزواً إليه.
موقع صيداويات © 2025 جميع الحقوق محفوظة