كان يفترض أن تنطلق أمس عملية التسجيل في الثانويات الرسمية. إلا أنّ المشهد كان يشبه إلى حد بعيد تقبّل التعازي بالعام الدراسي الجديد بدلاً من استقباله، ولو ظهرت خروقات لقرار الرابطة مقاطعة التسجيل في عدد قليل من مدارس بيروت وجبل لبنان والكثير من مدارس الجنوب والبقاع.
برج البراجنة
بدأت الجولة على الثانويات الرسمية في بيروت من ثانوية برج البراجنة الرسمية للبنات. يلتقطك الناطور عند بوابة الثانوية كما يلتقط أولياء الأمور الذين حضروا لتسجيل أولادهم بحسب الموعد المحدد، ويقطع عليك الطريق مردّداً العبارة ذاتها: «ما في تسجيل اليوم، راجعونا الاثنين». تتوقف بشرى التي حضرت «رِجل لقدام ورجل للوراء» لتسجيل ابنتها الكبرى، وبيدها الأوراق المطلوبة. صحيح أنها متأكدة من عبثية التسجيل في «تعليم رسمي ميؤوس منه»، لكن ما دامت لا تملك ترف الاختيار بين تعليم رسمي وبين خاص فضّلت أن تشتري سمكة ولو في الماء. تبدو عليها علامات الحيرة والخوف على مستقبل أولادها الثلاثة، اثنان في التعليم الأساسي الرسمي. فقبل مجيئها، قصدت مدرسة برج البراجنة الثانية التي رفضت تسجيل ولديها لأنهما جديدان، واكتفت بتسجيل اسميهما على لوائح الانتظار.

(هيثم الموسوي)

يؤسفك فقر هذه السيدة الذي يظهر من خلال هندامها وبؤسها وحديثها، حتى تلعن الفقر الذي يسلب من الفقير حقه في التعليم. وتستدرك أن حال الأساتذة لا يختلف وفي بعض الأحيان يزداد بؤساً. حضرت مجموعة صباحاً، سجلت إمضائها، ثم توجهت إلى الاعتصام الذي دعت إليه الرابطة أمام مجلس النواب. لم تشارك أستاذة اللغة العربية معهم، لأنه ببساطة: كيف أصل؟ تعرّي حقيبتها لتكشف أنها لا تملك غير 300 ألف يفترض أن تكفيها حتى نهاية الشهر. تخلت عن اشتراك الكهرباء. تتخلف عن دفع الفواتير، و«تشحد» أدويتها. مع ذلك تجد نفسها أفضل حالاً من أساتذة آخرين يدفعون أجرة منزل أو مسؤولين عن إعالة عائلاتهم.

الغبيري الثانية
تسمع أن ثانوية الغبيري الثانية الرسمية للبنات تحدّت قرار الرابطة وتسجّل الطلاب، فتقصدها وفي ذهنك مشهد صاخب يحاكي أول يوم تسجيل في ثانوية رسمية يهرب إليها النازحون من المدارس الخاصة بعدما تدهورت قدرتهم الشرائية. تصعد السلالم إلى الطابق الأول مستعيناً بضوء الهاتف، كمن يصعد إلى مغارة. تصل فتجد العتمة تسكن قاعة التسجيل أيضاً، حيث تجتمع سيدات حول طاولة مستديرة وقد بدا الضجر على وجوههن. لا شيء هنا يشير إلى بداية العام الدراسي. أين هم الطلاب وأهاليهم؟
تفسّر ناظرة: «فتحنا باب تسجيل الطلاب القدامى في الصيف قبل إعلان الإضراب، ونتابع اليوم تسجيل من تبقى منهم حصراً، أما الطلاب الجدد فقد نسمح بتسجيلهم الاثنين المقبل، وبناء على قرار وزير التربية لم نبدأ تسجيل الطلاب السوريين». مع ذلك، الهدوء في الثانوية يعود إلى حقيقة لا لبس فيها، وهي هجرة الطلاب من التعليم الرسمي إلى الخاص، تؤكد ذلك نسبة التسجيل «الصادمة»، وقد بلغت 10% فقط من مجموع الطلاب القدامى. «هناك طلاب كانوا يأتون من العمروسية والشويفات، لذلك يتوجهون إلى ثانوية رسمية أو خاصة قريبة من المنزل». النظّار في الثانوية حضروا بناء على دعوة «مفاجئة» أمس وصلتهم عبر واتساب من المديرة. لكنهم لا يجدون ذلك يعبّر عن موقفهم، «فالأساتذة في الاعتصام ونحن جميعاً تعبنا من هذا الوضع المزري».

جبران تويني
لا شيء جديداً في ثانوية جبران تويني الرسمية التي فتحت أبوابها للأساتذة في الملاك من أجل الإمضاء لكن التسجيل «مأجّل إلى أجل غير مسمّى»، إجابة واحدة للأهالي. يرفض الأستاذ علي أن يسمّي ما يحصل «إضراباً» بل «عدم القدرة على تأدية المهام ما دامت كلفة مواصلات لا تكفي للوصول، والراتب لا يكفي لسد رمق العيش». ولأن الأهالي حفظوا هذا الكلام، لم يعودوا بغالبيتهم يلومون الأساتذة ويحمّلونهم ذنب تعطيل العام الدراسي، من دون أن ينفي ذلك أنهم «غاضبون جداً ويطلبون حلاً سريعاً»، بحسب الأستاذ عينه.
بدا الأهالي الذين يسجلون أولادهم كمن يشتري السمك في البحر


في الأثناء يتقدم رجل ستينيّ وينفجر في وجهك كالبركان. يسحب أوراقاً نقدية من جيبه وهي ثلاث أوراق فئة 20 ألفاً، وواحدة فئة 10 آلاف. يرميها على الأرض: «هذا كلّ شي معي حتى آخر الشهر». ويسأل عن قيمتها قبل أن يجمعها في مشهد غريب للغاية يجعل أي كلام سيصدر منك غبياً أو عبثياً. تستمع إليه مدهوشاً ليزداد الأمر غرابة، فأنت أمام أستاذ حائز على دكتوراه وسنوات طويلة من الخبرة في الداخل والخارج، مخلص لعمله... فعلاً، لا شيء يمكن أن يقال!

رينيه معوض
تنتهي جولتنا في ثانوية رينيه معوّض الرسمية، حيث عاد بعض الأساتذة والنظّار من الاعتصام مستائين من قلّة عدد المشاركين. اجتمعوا لاحتساء القهوة. وتناقلوا الأحاديث. تارة يسخرون من «راتبهم الذي يساوي نصف أو ربع رواتب تلامذتهم». وتارة أخرى يقسمون أنه «لا تعليم إذا بقي الوضع على حاله».
لا يؤمنون بجدوى الإضراب كوسيلة ناجحة للضغط، لكنها آخر خرطوشة بين أيديهم. «فلو أننا وجدنا عملاً آخر لغادرنا»، يعترفون. يحنّ أحدهم إلى الحركة النقابية أيام حنا غريب «عندما كان الآلاف يعتصمون عند القصر الجمهوري»، أما اليوم «أحكمت الأحزاب الخناق على هيئة التنسيق وتفككت الروابط، حتى صار تحرّك كهذا لا يشارك فيه أكثر من 200 فرد ولا ينتج منه إقفال الطريق».